Arabpsynet

Original Articles / أبحــاث أصيلــة 

شبكة العلوم النفسية العربية

 

على طريـق المدرسـة العربيـة للطـب النفسـي ولعلـم النفـس

أ.د. محمـد أحمـد نابلسـي

أستاذ الطب النفسي الجامعة اللبنانية

E.mail : ceps50@hotmail.com

Website : www.psyinterdisc.com 

رئيس مركز الدراسات النفسية و النفسية الجسدية - لبنان

  

q       النص الكامل /   Full text / Texte  entier 

 

    يجمع العاملون في تطبيق العلوم الإنسانية على ضرورات تعديل مناهج هذه العلوم بما يتوافق مع الوقائع الإنسانية- الثقافية. هذه الوقائع التي أرست مبادئ المدرسة النفسية عبر الحضارية هي عينها التي وضعت كبار باحثينا أمام علائم الخصوصية الثقافية التي تحول دون اعتماد التصنيفات والاختبارات و أساليب العلاج الأجنبية. إذ يحتاج هذا الاعتماد إلى إعادة نظر منهجية في هذه المعطيات قبل وضعها موضع التطبيق.

في ما يلي وفي سياق الحديث عن مدرسة نفسية عربية نعرض لبعض المقدمات الأولية التي طرحها عدد من باحثينا على طريق المدرسة العربية للطب النفسي ولعلم النفس.

 

1- البروفسور مصطفى زيور:

..إن الوقائع العيانية ورصدها لا قيمة لها بغير فكر نظري خالص متعال هو الذي يضفي المعنى ويمنح الدلالة...  من كتاب في النفس

 

2- الدكتور محمود السيد أبو النيل:

إنني ريفي النشأة جئت إلى المدينة في بداية دراستي الجامعية فأخذت تتشكل لدفي النظرة المقارنة بين أهل الريف وأهل المدينة. وأخذ القالب العلمي لهذه النظرة ينمو يوما وراء يوم خلال الدراسة الجامعية وما تلاها من دراسات عليا، ثم جاءني العمل في بلاد عربية وزيارة بلاد أجنبية حيث تجاوزت النظرة المقارنة حدود الحضارة الواحدة إلى الحضارات الأخرى.

... إن هذه الدعوة لا تخرج عن كونها بداية جهد فردي لعمل تفرض مجالاته المتعددة أن يتحمل عبء الكتابة فيها فريق كبير من المتخصصين. وأوجه هذه الدعوة إلى جميع المتخصصين بعلم النفس في مصر وفي العالم العربي... (من كتاب علم النفس عبر الحضاري)

 

3- الدكتور محمد عثمان نجاتي:

... لقد أقمت مع عدد من علماء النفس الأميركيين والعرب "جمعية البحوث الحضارية المقارنة" (توقفت بسبب العدوان الثلاثي عام 1956).  (من كتاب حياتي مع علم النفس في مصر)

 

4- الدكتور علي كمال:

... إن الأمراض والاضطرابات النفسية والعقلية، وفي مقدمتها الفصام، تتعلق بأداة الفكر وتوازنه واختلاله، ومن طبيعة الفكر أن تكون اللغة هي الأداة الرئيسية والصادقة للتعبير عنه سواء في حالة التوازن أو الاختلال. وهذا الواقع يحتم ضرورة الرجوع إلى لغة الفرد وتعابيره لفهم حالته العقلية وتقرير صحته من خلله. وحاجتنا إلى لغة التفاهم مع المريض العربي وأهله هي بالتأكيد أكثر من حاجتنا إلى مثلها في مجالات أخرى من الطب...

ومن حوافزي هناك شعوري بضرورة إقامة التواصل بين تراثنا العربي والفكر الطبي وبين حاضرنا ومد هذا التواصل إلى المستقبل...

وباعتراف العلماء الغربيين فإن أول تصنيف للأمراض العقلية هو تصنيف العلماء العرب الأوائل، ومن بينهم أحد معاصري الرازي الذي حدد تصنيفا مذهلا في دقته وفي موضوعيته... (من كتاب فصام العقل)

 

5- الدكتور عبد القادر الشيخلي:

... هناك عدد من الاضطرابات النفسية والعقلية التي نصادفها في عيادتنا دون أن نجد لها أثرا في التصنيفات الغربية للاضطرابات النفسية. ومن هذه الاضطرابات الخاصة "اضطراب عقلي عابر خاص بمنطقة وسط الفرات "... (من محاضرة في المؤتمر الدولي الثامن للطب النفسي)

 

6- د. فريد كاشا:

... تواجه الدول النامية مشاكل زيادة نمو المعدل السكاني بنسب مهمة كما تواجهنا (في الجزائر وفي الدول العربية) زيادات ملحوظة في طلب الاستشفاء وفي الطوارئ، وذلك في مقابل نواقص هامة وبالغة على صعيدي التجهيز المادي والخبرات البشرية. أمام هذه الوقائع على الدول العربية (والنامية إجمالا) أن تجد لنفسها تنظيما خاصا لأجهزتها الصحية حتى تستطيع هذه الأجهزة متابعة القيام بدورها وأيضا للحؤول دون تخريب وتدمير قدرة العائلة والمجتمع على تحمل المرضى العقليين واستيعابهم... (من محاضرة في المؤتمر الدولي الثامن للطب النفسي)

     إن هذه الآراء هي قليل من كثير وهي وإن لم تدع صراحة إلى ضرورة قيام المدرسة العربية فإنها تقرر هذه الضرورة من خلال طروحاتها. وبما أننا لا نرى مبررا لتفنيد هذه الآراء وشرحها فإننا ننتقل إلى مناقشة العوائق التي واجهتها دعوتنا إلى المدرسة العربية بعد مضي أكثر من عام على طرحنا لها. وهذه المعوقات لا تختلف في جوهرها عن المعوقات التي تواجه تعريب جميع العلوم، بحيث يمكننا رد هذه المعوقات إلى المواقف المسبقة التالية:

1- الخلط بين "لغة الدين " و"لغة العلم".

2- اتهام اللغة العربية بالقصور عن استيعاب المصطلحات العلمية.

3- صعوبة رسم الحروف العربية الهجائية.

4- صعوبة التشكيل.

5- الدعوة لاستخدام اللهجات العامة المحلية.

ونود، قبل تطرقنا إلى مناقشة هذه النقاط، أن نستعرض التطور الزمني لهذه المعوقات التي تشكل بحد ذاتها نوعا مميزا من التحدي وشكلا خطرا من أشكال التمييز بين الشعوب.

يمكننا أن نرد البوادر الأولى لهذه المواقف العنصرية إلى نهايات القرن التاسع عشر. ففي العام 1892 ألقى المستر ولكوس محاضرة في القاهرة ورد فيها ما يلي:"… إن السر في تخلف المصريين وعجزهم عن الابتكار يكمن في اعتمادهم اللغة العربية... إلخ ". وبمعنى آخر فإن الاستعمار البريطاني بممارساته غير مسؤول وغير مساهم في هذا التخلف. بل على العكس فإن هذه الممارسات هي بمثابة خطوة على طريق التحضر.

لم نكن لنعرض هذا الرأي لو كان مجرد رأي شخصي. ولكننا نعرضه لأنه عكس تيارا وخطة مدروسة في تعامل الدول الاستعمارية مع مستعمراتها. ووفق هذه الخطة كانت معاهدة "سايكس- بيكو" وإقرار مبدأ الانتداب والعمل على إفشال تجارب الاستقلال العربي بناء على تخطيط مسبق دقيق. ولقد ساهم مؤلفون عرب عديدون في تنفيذ هذه المخططات. ولقد كان هذا الإسهام نتيجة للانبهار بالغرب. ومن هؤلاء المساهمين نذكر لطفي السيد وعبد العزيز فهمي ومارون غصن... إلخ.

ونكتفي بهذا القدر من الاستعراض الزمني لنذكر قارئنا بأن المدرسة التي ندعو إليها هي مدرسة علمية، وهي بالتالي تعارض كل أشكال التمييز الديني والعرقي والعنصري والفئوي وغيرها من أشكال التمييز بين البشر. وإذا وجدنا القارئ نطرح هذه المواضيع فإن ذلك بهدف الدفاع عن مجموعة من البشر (مئات الملايين) تعرضت ولا تزال لأنواع خطرة من التمييز. وبما أن دفاع الأشخاص عن أعراق لا ينتمون إليها يتدرج في خانة الدفاع عن حقوق الإنسان فإننا نأمل أن تتيح لنا حقوق الإنسان حق الدفاع عن أنفسنا وعن مجتمعاتنا (وبخاصة عن مرضانا) دون أن يوجه إلينا مؤمن بهذه الحقوق تهما غير مشروعة. فإذا ما أتت هذه التهم من قبل أناس لا يؤمنون بهذه الحقوق فإننا لا نكترث لها.

وننتقل الآن إلى المعوقات المشار إليها أعلاه لنؤكد بأننا لم نكن لنلتفت إليها لولا أن أدواتها تصدت لدعوتنا وصنفت هذه الدعوة في إطار المحظورات وفي إطار الدعوات الخطرة. وإنني كلبناني آسف لأن مصدر هذه المعوقات كان لبنانيا صرفا. فبريدنا العربي لم يحمل سوى الثناء على هذه الدعوة. والثناء عينه حمله بريدنا اللبناني. ولكن هذا الأخير تضمن، ولو بنسبة ضئيلة، كل المعارضة التي واجهتها الدعوة إلى المدرسة العربية. وأخشى ما أخشاه أن تؤدي هذه المواقف المتنافرة والسقيمة إلى اتخاذ المفكرين والعلماء العرب موقف التعميم وصولا إلى التحفظ على كل ما هو لبناني. وآسف إذ أقرر أننا قد اختبرنا مثل هذا التحفظ في قبول القراء العرب لمجلة الثقافة النفسية.

 

وفي عودة إلى مناقشة المعوقات المشار إليها أعلاه، نبدأ ب:

1-     من المؤكد من المؤكد أن الاضطراب النفسي، على أنواعه، يتصاحب مع الاضطراب اللغوي. كما أنه من المؤكد أن كل مريض يهلوس ويتخيل يعاني اضطرابه اللغوي بلغته الأم. فالإسرائيلي ذو الأصل العربي يهلوس بالعربية إذا ما مرض. كما يهلوس بها المرضى الذين تعلموا العربية كلغة أساسية (حتى ولو لم يكونوا عربا). وعلى هذا الأساس هل هناك من يتهم دارس هذه الاضطرابات اللغوية بالتعصب الديني أو العرقي؟ وهل يستطيع الاختصاصي التعمق في دراسة هذه الحالات إذا هو لم يدرس اضطرابات اللغة العربية لدى المرضى العقليين المتكلمين بالعربية؟ وهل نستطيع تطبيق اختبار رسم الوقت على المتكلم بالعربية كما على المتكلم باللغات الأخرى؟ وهل نستطيع تطبيق أي اختبار نفسي أجنبي على مريض عربي دون تعديل هذا الاختبار؟ ثم هل للدين أو للعرق أو للتمييز المرتكز إليهما مكان في ما ندعو إليه؟ وأخيرا هل يظنن أحد أن الموضوعية العلمية تقتضي أن يشعر الباحث بالعار بسبب انتمائه العربي أو بسبب انتمائه الديني؟ أم أن عليه أن يشوه هذه الانتماءات حتى يصبح موضوعيا !؟

وهنا نذكر برد للدكتور شاهين عبد الصبور على هؤلاء إذ يقول: (الخطأ أولا في المصطلح).

فاللغة هي اللغة وهي ذاتها المستخدمة في كل الأهداف التعبيرية التي يريدها المتكلم سواء أعلمية كانت هذه الأهداف أم دينية أم غيرها. لذا فإن الصواب هو القول ب:" الأسلوب العلمي" و"الأسلوب الدين" ولكل أسلوب طابعه الخاص وقواعده الخاصة. وأما القول ب " لغة الدين" فهي عبارة يقصد بها مستعملوها التعبير عما يكنونه من عداوة للعربية).

لقد دأب الاستعمار على الربط بين الإسلام والعروبة حتى بات هذا الربط معتبرا من المسلمات (حتى في أذهان بعض العرب). وهنا أذكر شكوى أحد زملائي على مقاعد الدراسة إذ قال: "أنا لبناني ، فإذا ما أتيت عملا ناقصا وصفوني (يقصد أهل البلاد التي كنا ندرس فيها) بالعربي، أما إذا أتيت عملا جيدا وناجزا وصفوني باللبناني الذي لا يمت إلى العروبة بصلة. حتى بت لا أعرف إن كنت عربيا أم لا!؟".

خلاصة القول إن الدعوة إلى المدرسة العربية هي دعوة ذات أهداف إنسانية تهدف إلى دعم وتعميق فهمنا للمريض وزيادة إمكانياتنا في علاجه والتخفيف عنه بعيدا عن أي تمييز ديني أو عرقي أو فئوي.

 

2-                   اتهام اللغة العربية بالقصور عن استيعاب المصطلحات العلمية:

    يعاني الباحث النفسي المعاصر من "اضطراب المصطلح ". فالدراسات النفسية تشهد تطورات هامة في وقتنا الحالي. وهذه التطورات كثيرا ما تقتضي تفريع المصطلح الواحد إلى أربعة أو خمسة مصطلحات فرعية، مما يتسبب غالبا بارتباك وتشويش القارئ. و"اضطراب المصطلح " يشكل اليوم شكوى أساسية لدى الباحثين الأميركيين خاصة والغربيين عامة.

ومن الطبيعي أن تكون معاناة الباحث العربي من "اضطراب المصطلح " معاناة أكثر عمقا. ومرد هذا العمق وهذه المعاناة يكمن في أن باحثينا لا يقودون هذه الأبحاث ولا يجارونها بل إنهم لا يطلعون عليها إلا بعد مرور عدة سنوات (وهذا يدعم ضرورة قيام المدرسة العربية). أما التستر وراء الادعاء بقصور اللغة العربية عن استيعاب هذه المصطلحات فهو دعوة باطلة. وهذا الباطل يعجز عن تغطية قصورنا وقصور مراكزنا العلمية ومؤسساتنا حتى نطمئن بالا ونلقي اللوم على اللغة. ومثالنا الحاسم على ذلك كتاب نعترف بأننا لم نطلع عليه إلا مؤخرا (في سياق اهتمامنا بموضوع التراث النفسي العربي) وهو كتاب ابن الجوزي أخبار الحمقى والمغفلين. وفي هذا الكتاب نجد أن عدد تسميات الأحمق في اللغة العربية يبلغ الـ 49 تسمية وهي:

الأحمق، الرقيع، المائق، الأزبق، الهجهاجة، الهلباجة، الخطل، الخرف، الملغ، الماج، المسلوس، المأفون، المأفوك، الأعفك، الفقاقة، الهجأة، الألق، الخوعم، الألفت، الرطىء، الباحر، الهجرع، المجمع، الأنوك، الهنبك، الأهوج، الهبنق، الأخرق، الداعك، الهداك، الهبنقع، المدله، الذهول، الجعبس، الأوره، الهوف، المعضل، الغدم، الهتور، عياباء وطباقاء.

ومن الأسماء الخاصة بالمرأة الحمقاء: الورهاء، الخرقاء، الدفنس، الخذعل، الهوجاء، القرنع، الداعكة والرطيئة.

ولدى قراءتي لهذه التسميات تذكرت ارتباكي لدى محاولتي ترجمة كلمات Imbécile و Idiot وdébile 

وهي درجات الحمق الثلاث بحسب التصنيف الدولي للاضطرابات النفسية. مما لم أعد أشك معه في أن ارتباكي في حينه كان مرده إلى جهلي اللغة العربية و مصطلحاتها النفسية وليس قصور هذه اللغة. فهذه اللغة قد لا تحوي في  تراثها مرادفات تقنية ولكنها تحوي حتما المصطلحات العائدة للعلوم الإنسانية

وبخاصة علم النفس. بل أبعد من ذلك يتساءل الباحث عما إذا كانت هذه التسميات مترادفة أم أنها تدل على درجات الحمق. ونجد الجواب لدى مؤلف الكتاب، ابن الجوزي، إذ يروي على لسان أعرابي سئل عن الفرق بين الأحمق والمائق فقال: "الأحمق مثل المائح على رأس البئر والمائق هو مثل المائح الذي هو في أسفل البئر، فبينهما من الجودة في الحماقة ما بين هذين ".

فهل يصح أن نتهم اللغة العربية بالقصور في استيعابها للمصطلحات والمفردات النفسية؟

 

3- صعوبة رسم الحروف العربية الهجائية:

نكتفي هنا بالتذكير بتعقيد رسوم الحروف اليابانية أو الصينية (تحتوي الآلة الكاتبة الصينية على 8500 مفتاح للحروف). كما نذكر بأن هذا التعقيد لم يحل دون قيام المدرسة اليابانية والصينية ودون قيادتهما للأبحاث العالمية في مجالات نفسية عدة.

 

4- صعوبة التشكيل والدعوة لإلغائه:

في رأينا أن هذه الدعوة ساذجة بحيث لا تستحق الرد عليها.

 

5- الدعوة لاستخدام اللهجات العامية المحلية:

بدون تعليق.

 

وبعد استعراضنا لهذه المعوقات ننتقل إلى مناقشة الخطوات العملية على طريق إرساء علم نفس عربي. وهذه الخطوات لا يمكن تحقيقها إلا بتضافر الخبرات والتجارب العربية لأن كل واحدة منها تمثل مشروع بحث علمي يحتاج إلى سنوات عديدة وإلى باحثين كثر. وهذه الخطوات هي التالية:

(أ) معجم الألفاظ النفسية- التراثية وشرحها:

لقد أعطينا أعلاه مثالا على مرادفات كلمة "الأحمق" في اللغة العربية، هذه المرادفات التي يجهلها أكثر اختصاصيينا المعاصرين. وقس على ذلك آلاف المرادفات والمصطلحات الأخرى مما يقتضي وضع معجم لهذه الألفاظ حتى يسهل على الاختصاصي والباحث والمترجم الرجوع إليها عند الحاجة.

(ب) تحقيق الكتب والمخطوطات النفسية- التراثية.

(ج) تنوير التراث النفسي- العربي:

ونقصد بهذا التنوير عملية دقيقة ومحددة نوجزها على النحو الآتي: لدى مراجعتنا للكتب التراثية (عربية كانت أم يونانية أم غيرها) نلاحظ فيها من الاستطراد ما لا يتفق مع المفاهيم الحديثة للكتابة وللعلوم. فلو أخذنا كتاب أخبار الحمقى والمغفلين المشار إليه أعلاه، فإننا نلاحظ احتواءه على استطرادات وعلى أخبار وأبيات شعر لا تهم الاختصاصي النفسي بحال. بل إن ما يهم هذا الاختصاصي لا يتجاوز العشر صفحات من هذا الكتاب. والتحديث في رأينا هو استخلاص هذه الصفحات والتعليق عليها تعليقا يضعها في مكانها في المناظير العلمية الحديثة.

(د) علم النفس عبر الحضاري:

تشير إحصاءات الطب النفسي إلى وجود فوارق ملحوظة في أعداد المرضى بين ثقافة وأخرى، وبين بلد وآخر، وبين المدينة والريف في داخل البلد نفسه. ولقد تفرد الباحث العربي د. محمود السيد أبو النيل بإصدار كتابه علم النفس عبر الحضاري، وتمكن من إظهار الفوارق الملموسة في نتائج تطبيق النظريات النفسية وفي نسب الإصابات المرضية بين البلدان العربية والبلدان الأخرى. وفي حينه دعا الباحث إلى توجيه العناية نحو هذا الميدان ولكن صرخته ذهبت هباء. ونحن إذ ننظر إلى كتابه كخطوة على طريق المدرسة العربية فإننا نزداد إدراكا للصعوبات التي يواجهها قيام هذه المدرسة.

(هـ) المعاجم النفسية:

إن معجم الألفاظ النفسية التراثية، المشار إليه أعلاه، يعتبر مرجعا أساسيا للمعاجم النفسية المختصة التي نشير إليها في هذه الفقرة. وواقع الأمر أن المكتبة العربية لم تعدم بعض النتاجات الجيدة في هذا المجال. ونخص بالذكر ثبت المصطلحات التي نشرتها مجموعة البروفسور زيور في نهايات ترجمتها لكتب فرويد الصادرة في أواخر الخمسينات. وكذلك معجم مصطلحات التحليل النفسي (عربه د. مصطفى حجازي) ومعجم مصطلحات علم النفس والتحليل النفسي (فرج طه- أبو النيل وغيرهما- دار النهضة العربية). ولكن تعدد الاختصاصات النفسية وتفرعها يجعلان مكتبتنا بحاجة ماسة للمعاجم المتخصصة في هذه الفروع. وتكفينا الإشارة إلى عدم وجود قاموس واحد يستطيع أن يفي بغرض الباحث في التصنيفات المتبعة دوليا للاضطرابات النفسية. بل إن هذه التصنيفات نفسها غير موجودة باللغة العربية.

(و) الاختبار النفسي العربي:

بدون استثناء يتفق الباحثون على عدم صلاحية تطبيق الاختبارات النفسية في ثقافات غير تلك التي وضعت هذه الاختبارات فيها وقننت قياسا على أفرادها. فالاختبار الأميركي غير صالح للتطبيق في إنكلترا وقس عليه، حتى إن الجمعيات الدولية لم تتمكن من إيجاد الاختبارات الصالحة للتطبيق في جميع الثقافات. وهذا المبدأ صالح حتى في حالات الاختبار المؤلف من بضعة أسئلة محددة. فحتى في هذه الحالة فإن الباحث يجد نفسه مضطرا لإدخال بعض التعديلات في ترجمته لهذه الأسئلة. فبدون هذه التعديلات يمكن لهذه الأسئلة أن تستتبع أجوبة غير تلك المنشودة.

(ز) الطب النفسي الجائحي:

لا يمكن لأية هيئة أن تحدد أولوياتها ما لم تكن قادرة على القيام بتحديد دقيق لاحتياجاتها. فإذا ما عانت بعض البلدان من انتشار مقلق لمرض السل فإنها تكون مضطرة لاستنفار أجهزتها الصحية لمكافحته. فإذا هي لم تفعل، وفي المقابل راحت تبعثر الجهود البشرية والمادية لدراسة فيروس الإيدز الذي لا يصيب سوى بضعة أفراد من سكانها، فإننا نقول إن هذا البلد يهدر طاقاته ويمارس سياسة صحية عبثية.

من خلال هذا المثال نكون قد أعطينا فكرة عن أهمية الدراسات الإحصائية (الجائحية) التي من شأنها توجيه السياسة الصحية في بلادنا. وهذا يقتضي الاهتمام بفرع (الطب النفسي الجائحي) الذي لا نزال نهمله.

(ح) التصنيف النفسي- العربي:

لم تعدم العيادة العربية بعضا من محاولات إرساء مثل هذا التصنيف. ولكن هذه المحاولات بقيت في حدود المحاولة ولم تتخطها. فالوصول إلى التصنيف العربي هو هدف بحد ذاته ودونه جميع النقاط التي عرضناها أعلاه. فلو أخذنا بعين الاعتبار الإمكانيات الموضوعية المتوافرة لرأينا أن إيجاد هذا التصنيف يحتاج إلى سنوات طويلة من الجهود الشاقة وإلى مراحل متعددة وشاقة بدورها. ومن أهم هذه المدارس نذكر:

(1) ترجمة التصنيفات العالمية إلى اللغة العربية: ذلك أن الدعوة إلى المدرسة العربية وإلى التصنيف العربي لا يمكنها أن تعني رفض هذه التصنيفات أو إهمالها. فهذه التصنيفات هي جهود عالمية واضحة الأهمية. فلو دعونا إلى تعديلها بما يلائم واقعنا فإن ذلك لا يعني بحال اتهامها بعدم الصلاحية المطلقة.

 (2) تعزيز الحضور العربي في الجمعية الدولية للطب النفسي: لقد عكس المؤتمر الدولي الثامن للطب النفسي الضآلة البالغة للحضور العربي في الميدان (راجع العدد الثاني من مجلة الثقافة النفسية).

وهذه الضآلة لا تنعكس فقط على صعيد الحضور والمحاضرات ولكنها تنعكس أيضا على صعيد الأبحاث (بخاصة أبحاث تعديل التصنيف الدولي). فهذه الجمعية تعمد إلى استخراج آراء باحثين ينتمون إلى مختلف الثقافات، وهي تعدل التصنيف بناء على هذه المشاورات. وبالرغم من تمثيل الدول العربية في هذه المناقشات فإن هذا التصنيف لا يزال بعيدا عن تمثل الأوضاع الخاصة بالمريض العربي. ومرد ذلك إلى أن ممثلينا في هذه المباحثات يضطرون إلى الاستناد إلى تجاربهم وأبحاثهم الشخصية لأنهم لا يحظون بالدعم وبالاتصال الكافيين بزملائهم العرب. وبمعنى آخر فإن غياب المدرسة العربية يبعثر الجهود ويعرقل مجرد إدخال بعض التعديلات على التصنيف الدولي.

(3) تسهيل الاتصال بين الاختصاصيين العرب.

(4) عقد ندوات عربية، على أن تتمحور أهداف هذه الندوات حول المواضيع المشار إليها أعلاه بوصفها خطوات ضرورية لقيام المدرسة العربية وتصنيفها.

بعد هذه الخطوات مجتمعة يمكننا إذا الحديث عن تصنيف نفسي عربي وعن مدرسة نفسية عربية.

    وهكذا فإننا ندرك أن تحقيق هذه المدرسة ليس طرحا نظريا غير قابل للتحقيق كما ندرك أنه ليس سهلا فدونه عقبات وعقبات أولاها أولئك الذين لا يفوتون الفرص لإظهار عدائهم للعربية ولجهد المتكلمين بها، والذين يجسدون هذه العدائية في محاولاتهم لتشويه العربية وللتشكيك في صلاحيتها. فهل يعقل

أن يتم إحياء اللغة العبرية الميتة على يد بضعة ملايين من أحفاد متكلميها وأن تقتل العربية الحية التي يتكلمها مئات الملايين من البشر؟ وليكن مسلما أن "اللغة هي وعاء الفكر" فأين يصبح فكرنا (يهمنا تحديدا قدرات اختصاصيينا العرب على علاج مرضاهم) إذا ما كسر وعاؤه أو توسخ بأدران مثل هذه الدعوات؟

 

سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع : الإصــدار الإنجليــزيالإصــدار الفرنســي

 

Document Code OP.0002

PsyArSchool 

ترميز المستند OP.0002

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)

 

 

تـقـيـيــمــك لهــذا البحــث

****

  ***

**

*