Arabpsynet

أبحاث أصيلة / Original papers

شبكة العلوم النفسية العربية

 

الحجـــاب وشرعيتـــه فـي بلــد علمانــي – فرنســا
د. عدنــان حــب الله
رئيس المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية
جريدة الحياة  25/1/2004

E.mail : ahabalah@idm.net.lb

 

 

q       النص الكامل /  Full text / Texte  entier 

 

    كثر اللغط في الفترة الأخيرة حول الحجاب وشرعيته في بلد علماني (فرنسا)، إلى درجة أصبح معها أشبه بعلم يرفع على مؤسسة ليؤكد هويتها، وطاول اللغط المجتمع الفرنسي بكل طبقاته المفكرة، مع محاولة التوفيق ما بين حرية الرأي ومنع الحجاب. إذا نظرنا إلى المسألة من الناحية السطحية، نتساءل ماذا حدا بهؤلاء الناس حتى يختلفوا على قطعة قماش تغطي الشعر وجزء من الوجه. ولكن، إذا نظرنا من الناحية الرمزية، يتبين لنا أن الحجاب يحمل في طياته تطوراً كبيراً في الموقف من الحضارة الحديثة، ومادة صراع لم نشهده في السابق في تاريخ فرنسا الحديث. ظاهرة الحجاب وان بدت محصورة في فرنسا، إلا أنها أصبحت شبه عالمية تطاول البلدان الإسلامية بدرجة أولى. ونراها قد ازدادت في مصر وباكستان وفي أفغانستان وأخيراً في سورية ولبنان. ولم تتحول إلى أزمة إلا في تركيا نظراً إلى خيار النظام العلماني منذ عهد مصطفى أتاتورك. والحجاب نراه متنوع الأشكال، يراوح في إخفاء معالم جسد المرأة من البرقع الأفغاني مروراً بالملاية السوداء إلى قطعة القماش التي تغطي الشعر، وهذا التنوع في تفاصيله يخضع بدرجة أولى إلى تنوع الفقهاء أكثر من حاجة المرأة إلى إخفاء جزء من جسمها، إلى درجة أنه يمكن معرفة انتماء المرأة إلى مذهب أو إلى فرقة دينية أو إلى ملَّة من خلال نوع حجابها. ولا يوجد إجماع بين الفقهاء على نوعية الحجاب وأي منطقة من الجسد يجب أن تخفى ولا حتى النموذج الذي يجب تصحيحه. كل فقيه يفتي بحسب نظرته إلى ما يتوجب وما لا يتوجب، ويضفي بعد ذلك قدسية على ما أفتى به، حتى إذا حاولت أي امرأة تنتمي إلى هذا التيار، أن تغير من موديل حجابها تصبح ناشزاً، ومخلة بالآداب العامة. وإذا نظرنا إلى الظاهرة بشكلها العولمي نرى أنها ردة فعل على الحداثة تعبر عن خوف الرجل من المرأة وجنسها، وخوف المرأة من نظرات الرجل، وهذا يتطلب بحثاً عميقاً كنت قد لمحت إليه في كتابي "جرثومة العنف"، باعتبار أن أكبر أزمة سيعاني منها المجتمع العربي هي علاقته بالمرأة. وفي فرنسا، لم يطرح موضوع الحجاب إلا في السنوات العشر الماضية، علماً أن الجالية الإسلامية، وأكثرها من المغرب العربي، تتعايش مع المجتمع الفرنسي منذ عشرات السنين من دون أن يطرح موضوع الحجاب كأزمة. وبعدما تكاثرت أعمال العنف في الضواحي وتكاثر الاصطدام بين تقاليد الشعب الفرنسي ما بين المهاجرين العرب، انصب اهتمام المسؤولين والمفكرين على كيفية إيجاد مساحات التقاء ثقافي وحضاري بين الطرفين، وكيفية إدماج الأقلية الإسلامية في المجتمع الفرنسي. هذه المحاولات لم تنجح إلا جزئياً، وبدت بقع كثيرة من ضواحي باريس وبقية المدن الكبيرة أشبه بالغيتو لا تدخلها الشرطة الفرنسية. واستشرى العداء لدى طبقة جديدة من الشباب المهاجرين ضد المجتمع الفرنسي، واعتبروا أن الفرنسي لا يحبهم وان على رغم كونهم فرنسيي المولد، لا يتم التعامل معهم بمساواة وعدالة. وتبين للمسؤولين أن عملية الإدماج Integration غير ناجحة وغير متكافئة، ليس لأن المسلمين لا يريدونها بل لأن الفرنسيين في شرائحهم المتعددة غير مهيأين لقبول الدين الإسلامي كدين ثانٍ بعد الكاثوليك. والعلاقة مع المهاجرين المغاربة تمر بمرحلة مخاض، فبعد أن كانت في البداية قائمة على أساس مستعمِر لمستعمَر ، وبعد أن استدعي المهاجرون للقيام بأعمال لا يقوم بها الفرنسيون، أصبحت العلاقة بعد مرور ثلاثة أجيال، تتطلب الاعتراف بموقع جديد متساوٍ لا تسوده الدونية. وهذا لم يحصل إلى الآن لأنه ظاهرة جديدة تتطلب إعادة نظر بالمعتقدات الفوقية المتوارثة من الاستعمار الأول. هذا التفاوت في الموقع الاجتماعي أوجد شرخاً في المجتمع الفرنسي، فيبرز العداء من كلا الطرفين يؤججه صراع حضارات ما بين مسلم وغربي (وليس المسيحي لأن الشعب الفرنسي إجمالا غير متدين) وأقول غربياً لما تحمل هذه التسمية من دلالة حضارة انبنت خلال قرون، وأدت في النهاية إلى اعتماد معايير إنسانية وتقدم علمي وتقني لم يسبق له مثيل، وقد كلف ذلك المجتمع الفرنسي الكثير من الثورات والحروب دفع ثمنها غالياً ملايين الضحايا، وأصبحت بالنسبة إليه مقدسات لا يمكن التنازل عنها. ومن أهم هذه الإنجازات حرية المرأة وحقوقها السياسية والاجتماعية وبصورة خاصة حريتها بتملك جسدها - أي باختصار انتزاع هذه الملكية من حق الرجل الذي كان يتملكها سابقاً - وأصبح جسد المرأة في موقع التجاذب ما بين الإغراء واختزاله في موضوعه الجنسي، وما بين ذاتها وشخصيتها التي لا تختلف عن الرجل في احترامها وقدراتها الفكرية والاجتماعية وكي تستطيع المرأة قيادة هذا الجسد والتحكم به يتطلب الأمر منها تربية خاصة قائمة على كيفية استعمال حريتها واختيار رغبتها، لا سيما أن المجتمع الديموقراطي أعطى فسحة كبيرة لهذه الحرية. وبدا التسامح سيد الموقف، لدرجة أن العادات والممارسات الجنسية تبدلت وتغيرت بشكل أكبر مما كان يتوقع. فتعدد العلاقات أصبح شائعاً، والعذرية فقدت قدسيتها بل أصبحت مانعاً مختزلاً في وظيفته العضوية فقط، والعلاقات المثلية (PACS)  أصبحت مشرعة لدى الجنسين على غرار الزواج، لا تثير النفور ولا تسمى بالانحراف، كذلك فقدت العلاقات الزوجية قدسيتها، وبدت عرضة لكل المغامرات الجانبية (المسماة بالزنى)، لدرجة أن قليلاً من الزواجات الناجحة يصمد أمام الإغراءات، فكثر الطلاق ليتعدى مستوى الزواج (3 من 5). وبدا الشبان، وأكثرهم مصابون بصدمة الطلاق، أكثر ضياعاً مما مضى، يتوهون في زمرات ومجموعات يتقاسمون الملذات من خمر ومخدرات وجنس من دون رقيب (داخلي) ومن دون حدود. وانتقل السؤال من الهوية الوطنية إلى الهوية الجنسية، أهو ذكر أم أنثى، وما الفارق بينهما بعد أن تبددت الفوارق وأصبح التقارب يهدد بالالتباس فلا يعرف الفتى أو الفتاة أهو رجل أو امرأة. وكما يقول  Melmou  Chفي كتابه Lص  homme sous gravitژ أن المجتمع الحالي يتحول إلى طلب اللذة الجماعية من دون تمييز وهذا ما يميز المجتمعات الانحرافية .Pervers  أمام هذه الرؤية المختزلة ما هو موقف المسلم الفرنسي؟ مما لا شك فيه أننا إذا قارنا نجد أن الهوة قد اتسعت وأصبح من الصعب الطلب من المجتمعات الإسلامية في طقوسها ومفاهيمها الاندماج في المجتمع الفرنسي. فالخوف من الانزلاق أوجد ردود فعل ارتجاعية كوسيلة لحماية نفسها مما تسميه ضياع الهوية والانتماء. فالدين ليس فقط إيمانا وعقيدة، ولكنه طقوس وعبادات لحماية هذه العقيدة من الذوبان. وهذا ليس قصراً على المسلمين، فقد سبقهم اليهود إلى ذلك منذ عشرات السنين ولكن بشكل منظم أكثر. أضف إلى ذلك عاملاً آخر لا يقل أهمية عن هذا الوصف. وهو موقع الأب، فالأب الفرنسي فقد أهميته ودوره كمربٍ، وأصبح هامشياً بالنسبة إلى المفهوم الاجتماعي، بل أصبحت الدولة وصية عليه، فيكفي أن يصفع ابنه كفاً، حتى يذهب هذا الأخير إلى أول مركز شرطة ويقدم شكوى، وتكون نتيجتها استدعاء عاجلاً من القاضي، ليفصل الطفل عن والديه ويوضع في حماية الدولة DASS التي تتكفل بتربيته بأصلح مما لقيه من والديه. أي بمفهوم آخر إلغاء دور الأب كمسؤول أول. كذلك أن حصل طلاق يصبح هامشياً لا يحق له لقاء أولاده إلا مرة كل أسبوعين. ونتيجة لذلك أصبح التماهي بالأب لتكوين شخصية الطفل جانبياً، ويعوِّضه دور الأم المتضخم، فيتماهى الطفل بها. ونحن بحكم المهنة نعرف أن مثل هذا التماهي يؤدي إلى تكاثر التخنث وضياع الهوية الجنسية، وبالتالي زيادة عدد المثليين إلى درجة انهم أصبحوا شريحة مهمة في المجتمع تؤثر في الحقل السياسي. في المقابل يعاني الأب المسلم الفرنسي من أزمة وتصدع من نوع آخر يؤثران في بناء شخصية الجيل الجديد. الأب المسلم في المنزل يتمتع بقدسية واحترام وسلطة لا تقبل الجدل، حسب تعاليم الشريعة. فمنذ الطفولة يربى الولد على حب والده والخوف منه، ومخالفة لا تطاول سلطته فقط إنما تتعدى ذلك لتطاول علاقته بالخالق، ورضا الله هو من رضا الوالدين، وهو على دينه إن شاء أو أبى. وهذا الأب، قاسياً كان أو ظالماً، وان كان له حق على الزوجة ضمن حدود الشريعة، لا يحق للابن أن ينهره أو يرفع الصوت عليه، أي أن هذا الرجل بكل حسناته ومساوئه لا يطاوله النقد ما دام يتلبس دور الأب. فهو في المرحلة الأولى من الطفولة، يأخذ مكانة الأب المثالي، ويتهيأ له أن هذه المكانة التي يتماهى بها عامة، شاملة سواء في البيت أم خارجه. وعندما يصل الطفل إلى سن المراهقة ويدرك الفارق ما بين الأب المثالي والأب الواقعي، يتبين أن هذا الأب يسقط من قاعدته المثالية بمجرد أن يجتاز عتبة البيت. فهو يعامل من المجتمع الفرنسي من زاوية الدونية، فهو مهمش ولا قيمة له معادلة للآخر الأصيل. هنا يصاب الشاب بحال صدمة ويكتشف الحقيقة، إن هذا الأب المثالي هو هذا الأب الواقعي فيصاب بخيبة أمل كبيرة تسبب كسراً كبيراً في التماهي النفسي. فمن ناحية يتماهى بالأب المثالي ومن ناحية أخرى يرفض التماهي بالأب الواقعي بحسب ما يعكسه له المجتمع نظراً لتهميشه ودونيته. وينتج من هذا الشرخ اتجاهان متناقضان: الأول ينمي عنده العداء للمجتمع الفرنسي ويحاول الانتقام لوالده بشتى أعمال العنف التي تشهدها ضواحي المدن، ويرفض بالمناسبة التماهي بالقيم الفرنسية التي عادة تكون امتداداً للأب المثالي. وعلى رغم انه يرفض صورة هذا الأب الواقعي لا يستطيع التخلي عنه لأنه يرفض نفسه يومياً بحكم علاقته بالمجتمع الفرنسي، فكثير من المسلمين الفرنسيين لا يستطيعون أن يحصلوا على عمل إلا بعد أن يبدلوا اسم محمد باسم بيار أو فرنسوا، كي لا تكتشف هويتهم الإسلامية فتحول دون الحصول على العمل (هنالك الكثير من الأمثال تصب في هذا المنحى). لذلك نرى الشاب يتوجه إلى الأعمال المهينة أو الهامشية كسرقة السيارات وتجارة المخدرات، و أعمال الشغب على أنواعها. وهو في هذا المنحى يرضي تيارين يتنازاعانه في ذاته: حب الأب من ناحية وكراهيته من ناحية أخرى، وكلها تترجم على الصعيد الاجتماعي بإزدواجية في الشخصية: مسالم مع أقرانه ومعاد للغريب الذي يفترض انه لا يحبه. فتتكون العصابات في الضواحي التي تقلق حياة السكان المجاورين وتعزز صفة العداء. أمام هذا المأزق النفسي والاجتماعي، يبرز الأب المثالي كسبيل للخلاص كونه يمثل كل ما هو تراثي وقيماً تعود إلى الهوية الدينية. الأرض تصبح خصبة لكل صاحب دعوة أصولية، من دون أي قدرة على التمييز لأن الابن لا يعرف شيئاً لأنه يجهل العربية. والعودة إلى الدين بالنسبة إليه خشية خلاص، تصالحه مع نفسه وتعطيه الهوية التي تنقصه. ولا عجب أن لاحظنا أن أكثر النظريات الدينية السلفية تلقى استجابة لدى الشبان، انطلاقاً من قدوة الأب المثالي: فكلما اقتربنا من الأصل نقترب من المثال الأعلى. ويظهر الحجاب في هذا المناخ كرمز تتناوله المرأة لكي تعلن هويتها ومحاولة لتنقذ والدها من الإهانة. فإذا حافظت على شرفها وعلى كرامتها فليس ذلك إلا حفظاً لشرف الأب وكرامته. فالحجاب يأتي في هذا السياق، تعبيراً عن رفضها ما هو سائد وتأكيداً على التزامها هوية مغايرة. فهي تريد بالدرجة الأولى إبعاد جسدها عن حلقة التجاذب الإغرائي، لأنها غير مهيأة بحكم التربية وغير ضامنة للنتائج السليمة. ولا تتحمل نظرات الرجل إذا ما برزت محاسنها، وإذا ما عبرت عن رغبات تعريها من ثيابها، وقد مرَّ معي الكثير من الحالات لنساء جميلات، يقررن التزام الحجاب بعدما شعروا باشمئزاز من نظرات الرجال المعرية، وبعضهن على أثر حلم يظهر به شيخ جليل، ولي أو وصي أو إمام، يأمرهن بالتزام الحجاب. وهذا ما يؤكد دخول الأب المثالي إلى اللاوعي لكي يظهر في الحلم في أشكال رمزية. فالنداء يأتي من مكان آخر لا سلطة للإبنة عليه يأسرها فتمتثل، لأنه يكون سبق ذلك ابتعاد جعلها في صراع مع ذاتها - لا سيما أن النظام البنيوي هو نظام بطريركي. من هنا يتبين أن الحوار ما بين الداعين إلى الحجاب وما بين المعارضين في المجتمع الفرنسي، هو حوار طرشان: علمانية توتاليتارية وهوية ارتدادية. والخوف من الحجاب، أن يحجب الصراع الداخلي المتأجج بين الطرفين ويؤدي في النهاية إلى هوية فرنسية معاكسة ارتدادية.

 

Document Code OP.0086

Hoballah.hijeb

ترميز المستند   OP.0086

 

Copyright ©2004  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)