Arabpsynet

 أبحاث أصيلة / Original Articles

شبكة العلوم النفسية العربية

 

علــم النفـس والسياسـة فـي مصــر

أ.د. قــدري محمــود حفنــي

أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس – القاهرة / مصر

محـاضـــرة

قاعة الندوات بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة في 3 يناير 2001 ضمن برنامج محاضرات لجنة علم النفس

kadrymh@yahoo.com

  

q       النص الكامل /  Full text / Texte  entier 

 

السادة الحضور

    علاقتي بالموضوع الذي يشير إليه العنوان علاقة شخصية· في منتصف الخمسينيات، حين التحقت بالجامعة كانت مصر تشهد تبلور ملامح  يوليو 52· كان غبار أحداث ما عرف باسم أزمة مارس لم يهدأ بعد، وقبلها كانت أحداث كفر الدوار· كانت كلمات الديموقراطية، والإقطاع، والاحتلال البريطاني، والثورة، بل والإسلام أيضًا، تتردد مختلطة بأسماء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وخالد محيي الدين، وأيضًا خميس والبقري عمال كفر الدوار الذين تم إعدامهم، وعدلي لملوم نموذج الإقطاع الذي حوكم وسجن، إلى آخر قائمة طويلة من أسماء نجوم هذه المرحلة· وفي مثل هذا المناخ تزدهر عادة التساؤلات الكبرى عن حركة التاريخ وتوجهات المستقبل· كانت تلك التساؤلات تشغل آنذاك غالبية أساتذة الجامعة وطلابها علي حد سواء·

    في ظل هذا المناخ كانت بداية تعرفي على الماركسية وعلى التحليل النفسي معًا· كان الفكر الماركسي آنذاك ينفض عن نفسه آثار الستالينية، محاولاً أن يتحسس مواطئ أقدامه في مرحلة ما بعد ستالين، مراجعًا للعديد من تصوراته الدوجماطيقية القديمة، مخففًا من حدة اتهام المخالفين بالهرطقة· أما بالنسبة للتحليل النفسي فقد شهدت تلك الفترة حوارًا خصبًا بين اليسار الماركسي الأوروبي وبين التحليل النفسي، وبدأنا نتعرف على فلهلم رايخ ، وجورج بوليتزير ، وهنرى فالون ، ولوسيان سيف· وشهدت تلك الفترة كذلك بزوغ عدد من الفرويديين الجدد المتمردين على التحليل النفسي الفرويدي شدني منهم ايريك فروم·

    لقد بدت لي تلك الماركسية الجديدة المتآلفة مع اتجاهات أولئك الفرويديون الجدد بمثابة المصدر النموذجي للإجابة على التساؤلات الوطنية الكبرى التي كانت تشغل جيلي آنذاك· ومضيت في طريقي وقد خيل إلى أنني قد أوتيت من العلم الكثير، وأنه لم يبق سوي أن أحاول ممارسة ما عرفت، ولم يكن ثمن تلك المحاولة هينًا·  سنوات من الاعتقال والتعذيب· تركت علي الجسد آثارًا لم ينجح الزمن في محوها، وارتجف الجسد وعاني كثيرًا، ولكن ظل الفكر متماسكًا، وبقي اليقين ثابتًا، ولو إلى حين· إلى أن وقعت  واقعة يونيو 1967 وعندها ارتجف الفكر، واهتز اليقين، وكان الألم أكثر عمقًا· تكشف لي آنذاك -فيما تكشف- كم كنت متجاهلًا بل جاهلًا لطبيعة ما ألفنا أن نطلق عليه آنذاك "إسرائيل المزعومة"· وبدأت أتلفت حولي كمتخصص في علم النفس بحثًا عن سبيل للتعرف علي ذلك المجهول "إسرائيل"· ووجدتني غارقًا منذ ذلك الحين في خضم "علم النفس السياسي"

    أصبحت آنذاك مطالبًا بتبرير لإقدامي على دراسة موضوع "إسرائيل" دراسة تنتمي لعلم النفس، ولم يكن بد لتحقيق ذلك من محاولة التعرف من جديد على ملامح تاريخ العلاقة بين علم النفس والسياسة، وسرعان ما تبين لي أنه يصعب تحديد تاريخ لبداية تلك العلاقة· إتضح لي -فيما يشبه الاكتشاف- أن علم النفس الذي نعرفه اليوم قد بزغ من رحم عالم يموج بالتغيرات الاجتماعية الفكرية العنيفة· عالم الثورة الصناعية بما أفرزته من اغتراب للإنسان عن عمله ومن ثم عن عالمه· عالم الثورة الفرنسية، بما أفرزته من تحطيم لقيم إقطاعية سادت طويلًا لترسخ قيما جديدة تحمل شعارات الحرية والإخاء والمساواة· عالم الصراع  بين فلسفة مثالية ميتافيزيقية تحاول التمسك بمواقعها والتماسك في مواجهة فلسفة مادية ماركسية صاعدة·

    في ظل هذا المناخ نشأ فلهلم فونت مؤسس ذلك العلم الجديد· الذي كان تجسيدًا لمحاولة الإفلات الفكري من مأزق الاختيار بين المادية الماركسية، والمثالية الميتافيزيقية بتبني فلسفة ماخ النقدية التجريبية إن فهم دلالة افتتاح فونت لأول معمل يحمل اسم علم النفس في لايبزيج عام 1879 يصبح مستحيلًا، إذا لم نفهم فونت المفكر الأيديولوجي والمناضل السياسي· وهو فهم لم يتيسر لي  إلا بعد حين·

    ولا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة إلى سيجموند فرويد الذي تستحيل الإحاطة بدلالة نظريته في التحليل النفسي، أو فهم طبيعة الخلاف المستعر بينه وبين مخالفيه، إذا لم نتعرف على بنائه الفكري وطبيعة انتماءاته السياسية·

    والأمر كذلك بالنسبة إلي وليم چيمس رائد علم النفس الأمريكي الذي يصعب فهم دلالة إسهاماته في مجال علم النفس، دون الإحاطة بظروف سيادة  الفلسفة البراجماتية علي المناخ السياسي الفكري في أمريكا آنذاك· كما أننا لا نستطيع أن نفهم إسهامات سكنر في مجال التعلم بمجرد الإحاطة بنتائج تجاربه على الحمام  معزولة عن موقفه السياسي الفكري الذي أفصح عنه في كتابه المعنون "ما وراء الحرية والكرامة"، وكذلك روايته فالدن 2 التي نشرت عام 1948·

    أما إذا انتقلنا إلى الضفة الأخر من ذلك العالم الذي أصبح قديمًا، أي إلى الاتحاد السوفييتي الذي كان، لوجدنا أن رصد تدخل السياسة في تحديد مسار علم النفس لا يحتاج تنقيبًا، فقد كانت قرارات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي هي التي تحدد أي النظريات النفسية أولى بالاتباع، وأيها تستحق الإدانة والتحريم· ويكفي الإشارة إلي ذلك القرار الشهير الذي صدر عام 1926 بإدانة علم التربية سواء من حيث النظرية أو من حيث التطبيق باعتباره يمثل مواقف علمية زائفة ومعادية للماركسية·

    ذلك عن تاريخ العلاقة بين علم النفس والسياسة. ورغم ذلك التاريخ الطويل، ورغم أن علماء النفس لم يكفوا عن تقديم مساهماتهم في التطبيقات السياسية العملية، منذ نشأة علم النفس، وحتى الآن، فقد أجفلوا طويلًا عن صك مصطلح "علم النفس السياسي"· ربما نفورًا من الإفصاح عن مواقفهم السياسية، أو ترفعًا عن إلصاق شبهة السياسة بالعلم·

    نشر أيزنك عام 1954 كتابًا بعنوان "سيكلوجية السياسة" أهداه إلى صغير يدعي جاري "آملًا أن ينشأ في مجتمع يهتم بعلم النفس أكثر من اهتمامه بالسياسة" . ثم يمضي محاولًا الربط بين الاتجاهات السياسية وأنماط الشخصية، مؤكدًا بوضوح محاولته الفصل بين كونه مواطنًا له مواقفه السياسية ، وبين كونه عالمًا ينبغي أن ينأى بعلمه عن الأحكام القيمية، حتى أنه لم يستخدم تعبير علم النفس السياسي طيلة صفحات الكتاب· أما بيتر دي بريز أستاذ علم النفس في جامعة كيب تاون بجنوب أفريقيا، فلم يكن غريبًا أن يحاول في كتاب له صدر عام 1980 تطبيق إحدى نظريات علم النفس الاجتماعي المتعلقة بالهوية لتفسير العملية السياسية التي عايشها في موطنه، ورغم ذلك فإنه يعبر في مقدمة كتابه عن رؤيته السلبية للسياسة مستعيرًا عبارة الكاتب والشاعر الفرنسي بول فالبري "كانت السياسة هي فن منع البشر من التدخل فيما يعنيهم، ثم أضيف إليها فن دفع هؤلاء البشر إلي اتخاذ قرارات في أمور لا يفهمونها

    وعلى أي حال فإننا نستطيع أن نجتهد فنعرف مصطلح "علم النفس السياسي" باعتباره "ذلك الفرع من فروع علم النفس الذي يقع على منطقة التماس بين علم النفس، والسياسة، يتفاعل مع السياسة أخذًا وعطاءًا· ينقل من السياسة لبقية فروع علم النفس الأرضية التاريخية السياسية اللازمة لفهم وتفسير نشأة و تطور و ذبول  النظريات والتطبيقات النفسية، وينقل إلي السياسة من التقنيات والنظريات النفسية التي تساعد الساسة علي تفسير الظواهر السياسية، وتنفيذ الخطط السياسية في الحرب والسلم على السواء"·

    ومن ثم فإن لعلم النفس السياسي دورًا في تزويد صاحب القرار بما يلزمه من بيانات موضوعية تتعلق باتجاهات الرأي العام المحلي والعالمي، الراهنة والمتوقعة، بحيث يضمن للقرار السياسي أكبر قدر ممكن من التقبل والتأثير· كذلك فإن لعلم النفس السياسي دورًا في تزويد المفاوض بما يلزمه من معلومات عن فنيات التفاوض، وسمات الطرف الآخر التي تؤثر في أسلوبه التفاوضي، واتجاهات الجماعات الضاغطة حيال الموضوع محل التفاوض إلى آخره· ويلعب علم النفس السياسي أيضًا دورًا أساسيًا في مجال إدارة الأزمات الداخلية والخارجية بما يتيحه لصاحب القرار من معلومات تتعلق برؤية الجماهير في الداخل والخارج لطبيعة الأزمة، وتوقعاتهم لمسارها، مما يسهم في ترشيد قرارات إدارتها·

    والحديث عن علم النفس السياسي بهذا التحديد، لا يعني بحال أنه يمثل موقفًا فكريًا موحدًا متسقًا من القضايا ذات الطابع السياسي كالعنف والحرب والدين والجنس إلى آخره· بل إن علماء النفس بعامة يتباينون من حيث توجهاتهم الفكرية و مصالحهم الاقتصادية ومن ثم من حيث توظيفهم لعلمهم· إن من بين أولئك المتخصصين من كرسوا أنفسهم لخدمة قوي الشر والتعصب والعدوان موظفين علمهم في خدمة النازية، أو المكارثية، أو الستالينية، أو الصهيونية إلى آخره، ومنهم أيضًا من دفعوا من أرزاقهم، ومن حريتهم، بل ومن قدموا حياتهم استشهادًا في سبيل قوي الخير والعدل والحرية، موظفين علمهم في خدمة حركات التحرر أينما كان موقعها· وإذا كان أبناء الفريق الأول قد وجدوا لأنفسهم مكانًا في العديد من التنظيمات الحكومية الرسمية، فإن أبناء الفريق الثاني قد أقاموا لأنفسهم عشرات التجمعات غير الحكومية التي تعبر عن أهدافهم·

    إن تراث تطبيقات علم النفس السياسي يفيض بالعديد من النماذج التي تتباين من حيث طبيعة الطرف المستفيد· ويعد الصراع العربي الإسرائيلي نموذجًا مثاليًا في هذا الصدد· ففكرة اختزال الصراع بين العرب والمستعمرين الإسرائيليين ليصبح كما لو كان صراعًا نفسيًا قد تجد لها أنصارًا بين صفوف علماء النفس السياسي والسياسيين على حد سواء، ولكن الرؤية المقابلة التي ترى أن جوهر الصراع إنما يتمثل في الأرض المحتلة تجد لها جنودًا من المناضلين السياسيين، كما تجد لها مكانًا في أدبيات علم النفس السياسي

 

السادة الحضور

    كان حديثنا حتى الآن عن تاريخ علم النفس في الخارج، وفي الحقيقة لم تكن بلادنا استثناءًا من حيث  وجود ذلك التشابك الوثيق بين السياسة وتاريخ علم النفس· لقد قام علم النفس في بلادنا على أكتاف ثلة معدودة من الرواد لعل في مقدمتهم يوسف مراد، ومصطفي زيور· اللذان أصدرا أول مجلة تحمل اسم علم النفس في يونيو 1945، واستمرت حتى فبراير 1953· وسوف نعتمد في موضوعنا على أعداد هذه المجلة، إلى جانب مقابلات مع عددٍ من رواد وأساتذة علم النفس  في منتصف السبعينيات، من بينهم زيور والقوصي وسويف وقد شاركت في إجراء تلك المقابلات مع الزميلين صفوت فرج، ومحمود عبد الحليم

    تتصدر العدد الأول من المجلة بصمات سياسية لا تخطئها العين· صورة الملك فاروق "راعي العلم، والأمين على التراث الثقافي في مصر الحديثة"، ثم "كلمة جماعة علم النفس التكاملي المشمولة برعاية سمو الأميرة شويكار"· ويقول سويف في مقابلة معه في يونيو عام 1976 " لفت نظري أن المجلة كانت تحمل عنوان تحت رعاية الأميرة شويكار وكان الجو السياسي في مصر ملتهبًا ضد الملك والعائلة المالكة وابتدأت بعض الهتافات في بعض  المظاهرات في هذا الاتجاه فشعرت بنوع من الاستغراب ولكن لم تثر عندي أي شيء من المعارضة ولكن كان تساؤل بيني وبين نفسي"

    وحوت المجلة في عددها الصادر في أكتوبر 1945، موضوعا يستوقف النظر عن "اختيار ضباط الجيش" يتضمن الإشادة بنجاح الأسلوب الذي تتبعه بريطانيا في اختيارها لضباط جيشها· وتضمن العدد التالي الصادر في فبراير 1947 كلمة تحت عنوان "علم النفس في كلية أركان الحرب الملكية"، تبدأ بالإشارة إلي أن المقالة التي نشرت في العدد السابق كان لها أحسن الأثر في الأوساط العسكرية العليا، وأن كلية  أركان الحرب الملكية قد نظمت سلسلة من المحاضرات في علم النفس  بدأت من ديسمبر 1946 ساهم فيها الدكتور يوسف مراد· ولم يفت المجلة أن تورد حضور "لفيف من كبار ضباط الجيش وعى رأسهم عثمان باشا المهدي، والأميرالاي احمد بك فهيم كومندان الكلية الحربية، والدكتور عازر بك دميان من كبار ضباط الجيش· وقد أبدي عزته رغبته في إدخال نظام الاختبارات في الجيش، وإنشاء العيادات السيكلوچية إلى جانب العيادات الطبية

    وإثر حرب 48 خصصت المجلة عددها الصادر في يونيو/سبتمبر 49 لموضوع علم النفس والحرب، تصدره مقال للأميرالاي احمد شوقي عبد الرحمن بك - الذي اتضح فيما بعد أنه من تنظيم الضباط الأحرار- يتناول فيه الدور الذي لعبته الشائعات المعادية في نشر الذعر بين الفلسطينيين "إبان الحرب الأخيرة

    ويورد يوسف مراد في سيرته الذاتية التي نشرها مراد وهبه ما يوضح أن الدعوة إلى إدخال الخدمات النفسية في الجيش  قد تحققت بعد الثورة مباشرة في أغسطس 1952حيث ساهم في أنشطة "إدارة التدريب الحربي" بتنظيم قسم للخدمة السيكلوچية في الجيش، وتطبيق اختبارات الذكاء والشخصية علي طلبة الكلية الحربية في 10،11 من سبتمبر 1952 ثم إلقاء محاضرتين في كلية أركان الحرب التي لم تعد ملكية آنذاك عن الانفعالات والتمويه والإخفاء، وذلك في 28،31 يناير 1953، ثم التدريب لمدة شهر  في صيف 1953على الاختبارات في مركز الخدمة السيكلوچية للجيش الفرنسي في مدينة فرساي·

    ولم يكن مراد هو الفارس الوحيد في هذا الارتباط المبكر بالنظام الجديد، بل نافسه فرسان آخرون من كلية التربية· ففي نفس مجال الخدمات النفسية للقوات المسلحة كان ثمة فارسًا آخر هو أحمد زكي صالح· أما القوصي فقد ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالصاغ كمال الدين حسين أشهر وزراء التعليم  في عهد الثورة، الذي عينه مستشارًا فنيًا له بوزارة التعليم· وكذلك السيد خيري الذي اختار لإسهاماته مجالين متميزين: مجال الصناعة ومجال الأمن القومي للنظام الجديد· أما عثمان نجاتي فإنه يشير  في مقابلتنا معه إلى إسهامه في إنشاء إدارة لتحليل الرأي العام في مصلحة الاستعلامات التي كان يرأسها عبد القادر حاتم ·

    كان هؤلاء هم أبرز فرسان علم النفس الذين التصقوا بوضوح وبشكل قاطع بنظام يوليو عند بزوغه، ولكن ظل علي الضفة الأخرى صنف آخر من الفرسان، لعل أبرزهما المصطفيان: زيور، وسويف· إنهما ينتميان لمدرستين من مدارس علم النفس لم يعرف بينهما سوي الشقاق والنفور: مدرسة التحليل النفسي بتفرعاتها المختلفة، والمدرسة السلوكية بألوانها المتعددة· ترى كيف جمعهما في مصر موقف سياسي واحد؟

    و يبدو أن مقولة أن مصر قد تخصصت في كسر القوانين التاريخية العامة تصدق على حالتنا هذه· لقد اختلفت توجهات مدرسة التحليل النفسي في مصر عن نظيرتها في بلدان العالم الغربي من حيث الموقف من قضية الاستعمار الصهيوني لفلسطين· المحللون النفسيون في العالم الغربي بحكم صهيونية غالبيتهم وقفوا بعلمهم إلى جانب نشأة إسرائيل الدولة، ودافعوا بقدر ما وسعهم الجهد عن مبررات تلك النشأة· وكان طبيعياً والأمر كذلك أن يجد المتأمل في سير حياة العديد من أقطاب حركة التحليل النفسي أن الخيوط متداخلة متشابكة بين ممارستهم العملية للنشاط الصهيوني  والتحليل النفسي ذلك هو موقف التحليل النفسي الفرويدي، ولكن لو نظرنا إلى زيور الذي كان لا يفتأ يعبر عن انتمائه للفرويدية الأرثوذكسية، لوجدناه مختلفًا في موقفه السياسي الوطني، سواء من حيث قضايا الوطن الداخلية وعلى رأسها قضية الليبرالية ، أومن حيث  القضية الفلسطينية· كان زيور مؤمنًا بالحرية السياسية، وقد انعكس ذلك في احتضانه ومساندته لأبنائه الذين استضافتهم السجون والمعتقلات السياسية المصرية بتهم متباينة يجمعها رفض النظام القائم، والذين يشكلون مجموعة تستوقف النظر من أوائل خريجي قسم علم النفس: أحمد فائق، و رؤوف حلمي، و حسين عبد القادر، و محمود الأنصاري، و عبد القادر شاهين، و لطفي فطيم، و كاتب هذه السطور· لقد احتضنهم زيور جميعًا في وقت كانت فيه مجرد شبهة التمرد على النظام كفيلة بالفرار من صاحبها وتجنبه تجنب السليم للأجرب·

كذلك فقد كان زيور مهمومًا بقضية "الفتنة الطائفية"· تحدث وكتب في فبراير 1952عن سيكلوچية التعصب إثر إحراق كنيسة بالسويس، وتطرق في معالجته للموضوع إلى أحداث 26 يناير، مفسرًا الظاهرتين باعتبارهما صورًا من إزاحة العدوان الموجه أصلًا إلى المحتل الإنجليزي، وأن إزاحته بهذه الصورة إنما ترجع إلى قيام ما يحول دون توجيهه إلى هدفه الأصيل· ولم يفت زيور التحذير من الاكتفاء بالتفسيرات النفسية مشيرًا بوضوح إلى "أنه لا سبيل إلي ضبط العدوان فضلًا عن نقله إلا إذا عالجنا مصادر النقمة والحرمان الأصلية···· وغني عن البيان أن هذا يقتضي دراسة الأحوال الاقتصادية، ولابد لنا من الاستعانة في ذلك بالأخصائيين في علوم الاقتصاد" لعل تلك العبارة وحدها تضع زيور ومدرسته المصرية للتحليل النفسي، في موقع متمايز عن المدرسة الفرويدية الأرثوذكسية التي قامت في الغرب على الاختزالية السيكلوچية بما يخدم الهدف الصهيوني· ولقد اتضحت الصورة أكثر في إقدامه على معالجة العدوان الإسرائيلي من منظور التحليل النفسي في مقالين نشرا عام 1968 محاولًا تفسير رحلة اليهودي التائه من الجبن إلى العدوان، كذلك لماذا اختار اليهود أرض فلسطين، فإذا به في أكثر من موضع يؤكد أن المعالجة النفسية للموضوع لا ينبغي أن تغفل العوامل السياسية والاقتصادية والإمبريالية التي أدت إلى ما حدث·

    أما المصطفي الثاني، مصطفى سويف· فقد آثر أن يكون موقفه من قضية الديموقراطية السياسية موقفًا حياتيًا صارمًا وإن كان صامتًا·  لقد شاء له القدر أن يتتلمذ على يوسف مراد، رفيق زيور في إصدار مجلة علم النفس· ولقد عرضنا للموقف الذي اختار مراد أن يتخذه من السلطة سواء في ظل الملكية، أو بعدها· ويسجل سويف في مقابلاتنا معه أنه حدث خلاف حاد بينه وبين مراد عقب قيام الثورة حيث طلب منه مراد في أواخر 1952 أن يعاونه في تطبيقات علم النفس في الجيش، ويبدو أنه أي مراد كان على ثقة تامة من موافقة سويف على ذلك، ولا غرو فهو تلميذه الأثير، الذي مازال ينجز رسالته تحت إشرافه، فإذا بسويف يقول له بوضوح "أنا لا أستطيع أن أسمح لنفسي أن أضع علمي في خدمة هذا الحكم  الاستبدادي"  ويشير سويف أيضًا إلي موقف آخر حدث في نفس فترة بداية الثورة حيث يقول "دار حديث غريب بيني وبين فايزة على كامل· وجدت فايزة فرحانة لأن لها أخ في الحركة وكانت  بتكلمنى وفاكره أنى فرحان زيها ولكن أنا مكنتش فرحان أو زعلان· هي كانت بتكلمنى عن الثورة وايه اللى حتعمله في المجتمع فقلت لها لا يمكن· دي لابد أن تكون ديكتاتورية"· ولم يمض وقت طويل إلا وطلب مراد من سويف في منتصف 1953 الاشتراك  في ترجمة كتاب جلفورد لحساب مؤسسة فرانكلين الأمريكية فاعتذر له عدة مرات متعللا بانشغاله، وتحت إلحاح مراد "قلت له أنا غير مستعد أن أترجم للأمريكان أو للروس وأنا غير مستعد أن يدخل  جيبي أي مليم غير وطني"

    وبطبيعة الحال فقد تغيرت مواقف الجميع مع تعرجات مسار ثورة يوليو والتفاف العديد من المثقفين الوطنيين حولها

 

السادة الحضور

    كان حديثنا حتى الآن عن التاريخ، فماذا عن الصورة الراهنة لعلم النفس السياسي في عالم اليوم؟· تعد رابطة علم النفس السياسي بمثابة المنبر الدولي الرسمي للمشتغلين بعلم النفس السياسي في العالم، وقد تأسست الرابطة عام 1978 وبلغ حجم عضويتها 1300 عضو· وتصدر الرابطة منذ نشأتها مجلة فصلية، فضلًا عن أنها تواظب على عقد مؤتمر سنوي· وقد اختارت لمؤتمرها القادم الذي تزمع عقده في المكسيك في يوليو 2001 شعارًا هو: "ثقافات العنف، وثقافات السلام"· ولعل استعراضًا سريعًا لعناوين الموضوعات التي تطرق إليها المشاركون في مؤتمري 1999، 2000 قد يتيح الفرصة لتذوق اهتمامات علم النفس السياسي في عالم اليوم

    انعقد  المؤتمر الثاني والعشرون  في امستردام من 18 إلى 21 يوليو 1999 تحت شعار: "قرن كوني/قرن محلي:الصراع، والاتصال، والتمدن" وقد حضر المؤتمر 500 عضو ينتمون لأربعين دولة، وكان من ضمن الموضوعات التي دارت حولها مناقشات المؤتمر وأوراقه:

-        الاتجاهات الحديثة في فهم القومية والصراع العرقي / اللغة والسياسة / دراسات التسلطية بعد الحرب الباردة / سيكلوچية الاتجاهات العنصرية / الهوية والشتات: السود في أمريكا وهولندا  / الشخصية السياسية لبوش مرشح الرياسة لعام 2000 / الاتصال الجماهيري والسياسة / العولمة والهوية الثقافية / المواجهات بين الجماعات اليهودية والعربية المتصارعة / السياسة الإسرائيلية في مواجهة عملية السلام في الشرق الأوسط / كيف نفهم الصين؟ روسيا؟ / علم النفس، ومشكلات السلاح النووي / العنف السياسي

   أما مؤتمر عام 2000 فقد انعقد في واشنطن من 1-4 يوليو 2000 تحت شعار "الآمال والمخاوف: الانتقال إلى الألفية الثالثة"، وتضمنت قائمة موضوعاته:

-        الشخصية والسلوك السياسي / العولمة والهوية / دور الوساطة في إدارة الصراعات / الهوية والصراع في الشرق الأوسط / علم النفس، والاقتصاد / السياسة في شرق آسيا / تصاعد وخفوت الصراع في الشرق الأوسط / العوائق الثقافية للديموقراطية / الأمن والسياسة الخارجية، وإدارة الصراع

    ورغم أنني لم أتمكن من حضور أي من مؤتمرات رابطة علم النفس السياسي، فقد أتيحت لي فرصة حضور ومتابعة جلسات الدورة الأخيرة من دورات المؤتمر الدولي لعلم النفس التي شهدتها العاصمة السويدية ستوكهولم في الفترة من 23 - 28 أغسطس عام 2000· وقد كان من أبرز معالم هذه الدورة تدشين مجال جديد من مجالات علم النفس اختار له المؤتمر عنوان "الدبلوماسية وعلم النفس"· ولعله مما يستوقف النظر أن الدعوة لتدشين هذا المجال الجديد قد انبعثت من جانب الدبلوماسيين طلبًا لإسهام يتوسمون في علم النفس إمكانية إضافته إلى ممارستهم العملية في المجال الدبلوماسي· ولقد افتتح چان ايلياسون وزير خارجية السويد أولى الجلسات التي انعقدت تدشينًا لهذا المجال الجديد تحت عنوان "السيمينار التذكاري لداج همرشولد عن الدبلوماسية وعلم النفس"· وأشار ايلياسون -الذي كان سفيرا للسويد في الولايات المتحدة، كما أنه عمل لفترة في سفارة السويد بالقاهرة -إلى أن ظروف العالم الجديد هي التي تدعوه كديبلوماسي محترف إلي الدعوة لتدعيم اقتراب الدبلوماسية من علم النفس· موضحًا أن انفجار الصراعات الداخلية قد أصبح بمثابة السمة المميزة لعالم اليوم· وأن "الدبلوماسية الوقائية preventive diplomacy" تكتسب في مثل هذا الموقف معنى جديدا يقتضي تطوير ما أطلق عليه "ثقافة الوقاية culture of prevention" التي ينبغي أن يتزود بها الدبلوماسي في عالم اليوم· وتشمل تلك الثقافة -فيما يري ايلياسون- عدة مكونات:

      أولًا: إنها ينبغي أن تشمل نظامًا للإنذار الحضاري المبكر بمعني التقاط وتفسير النذر الأولي التي تنبئ بأن ثمة انفجارا متوقعا، أو على حد تعبير ايلياسون "ضرورة توافر عيون وآذان سيكلوچية لالتقاط تلك النذر"· ويضرب مثلًا لذلك من واقع خبرته في الصومال، مستخلصًا أنه كان يمكن توفير الكثير من الجهد، والخسائر البشرية، لو تمت القراءة المبكرة لنذر انفجار الصراعات دون انتظار ظهورها على شاشات التلفزيون بعد انفجارها بالفعل·

      ثانيًا:  أنها ينبغي أن تشمل فهمًا علميًا متعمقًا لطبيعة جذور الصراعات العرقية، والحضارية، والدينية، والقومية، بحيث يمكن معالجتها بكفاءة في حال تصاعدها·

       ثالثا: أنها ينبغي أن تشمل فهمًا علميًا لاستراتيجيات حل الصراعات كالتفاوض والوساطة والتصالح إلى آخره·

     رابعًا: أنها ينبغي أن تشمل كذلك الإحاطة الدقيقة بأساليب توفير الثقة المتبادلة بين أطراف النزاع بعد إنهائه ضمانًا لاستمرارية ورسوخ استقرار الأوضاع·

    ويري ايلياسون أن توافر مثل هذه الثقافة للممارس الدبلوماسي لا يمكن أن يتحقق إلا بإقامة علاقة وثيقة بين علم النفس والدبلوماسية· ولقد تضمنت جلسات "علم النفس والدبلوماسية" التي امتدت عبر أيام المؤتمر حوارًا ثريًا متعمقًا بين الدبلوماسيين وعلماء النفس· وقد علمت أخيرًا أن وزارة الخارجية السويدية قد أنشأت قسمًا يختص بهذا المجال· 

 

السادة الحضور

   والآن، تري ماذا عن علم النفس السياسي في مصر· إن محاولة الإطلال على ما يجري في علم النفس في العالم الغربي لم تكلفني جهدا يذكر· أما حين تيممت صوب الساحة العلمية المصرية، فقد تبينت بعد جهود مبعثرة يائسة، أن مهمتي بالغة الصعوبة· وأن معرفة ما جري ويجري في جامعة ملبورن مثلًا أيسر بما لا يقارن من محاولة التعرف على ما أنجز في جامعة عين شمس في هذا المجال· ولم يعد أمامي وقد دهمني الوقت إلا الاكتفاء بحصر عناوين الموضوعات التي تعرضت لها البحوث التي شاركت فيها باحثًا أو مشرفًا عبر السنوات الماضية وهي لا تعدو في النهاية أن تكون  مجرد نماذج محدودة لا تعبر سوي عن مشروعي الفكري في مجال علم النفس السياسي، وتنقسم تلك الموضوعات إلى :

    أولًا: موضوعات تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي:

-        رؤى عينات من أبناء الجماعات القومية الضالعة في الصراع العربي الإسرائيلي، لجذور الصراع وآفاق تطوره·

-        اتجاهات الفلسطينيين نحو الهجرة

-        السمات الشخصية لعينات من الشباب الفلسطيني واللاجئين الفلسطينيين

-        دراسات مقارنة في أدب الأطفال في مصر وإسرائيل والأردن وسوريا

-        صورة إسرائيل في الصحافة المصرية

-        صورة الإسرائيلي كما يدركها المصريون

-        دور المعلومات في تشكيل وتعديل الاتجاهات في الحرب والسلام

-        صورة البطل المقدمة للطفل المصري في مجتمع الحرب والسلام

-        تصورات المثقفين المصريين لخصائص بعض الجماعات القومية واتجاهاتهم نحوها

ثانيًا: موضوعات تتعلق بالقضايا السياسية الداخلية

-        سيكلوچية الانتماء

-        الأبعاد النفسية للمشاركة الشعبية

-        الشخصية العسكرية المصرية

-        سيكلوچية التعصب

-        العنف الجماهيري التلقائي

-        العنف السياسي

-        الخصائص البيئية والنفسية لأسر جماعات العنف السياسي في مصر

-        السمات الشخصية للفتيات المحجبات

-        سيكولوجية الانتماء الإسلامي

-        ملامح الصورة الذهنية للداعية الإسلامي في البرامج الدينية بالتلفزيون المصري

-        اتجاهات المراهقين نحو البرامج الدينية

-        موقف جريدة الأهرام تجاه قضايا التطرف الديني عند الشباب

-        ديناميات جماعة المسجونين

-        تأثير العقوبة السالبة للحرية على البناء النفسي للمسجون

-        سيكلوچية طاعة السلطة في المجتمع المصري

-        أحادية الرؤية وموقعها في سمات الشخصية المصرية

-        تصور الشباب للمستقبل

-        الصورة الذهنية للعالم لدى المراهقين

-        إدراك الهوية القومية لدى الطفل المصري

-        صورة مصر لدي فئات من المراهقين

-        مجلات الأطفال المترجمة في مصر والتبعية الإعلامية

-        العلاقة بين الاختلاط في التعليم والتعصب الجنسي

    وذلك فضلًا عن سلسلة من البحوث اعتمدت على تطبيقات مقياس شاركت في تصميمه مع أستاذي رشدي فام منصور لقياس أبعاد أحادية الرؤية في المجتمع المصري·

 

السادة الحضور

    أود قبل أن أختتم محاضرتي أن أستأذن في التقدم بتوصيات ثلاث أراها ضرورية لتطوير هذا المجال:

أولا: تنظيم آلية فعالة لتفاعل مطلوب بين الدبلوماسية المصرية، وعلماء النفس·

ثانيًا: إننا نفتقد في أمتنا العربية  أية مؤسسة  تتيح لنا التعرف الموضوعي على آراء واتجاهات أبناء أمتنا حيال قضاياهم المصيرية· وبدون وجود مثل هذه المؤسسة فليس أمامنا سوى أن نتخذ قراراتنا في ضوء انطباعاتنا التي تتعرض حتمًا للخلط بين الحلم والواقع، بين ما نتمناه وما حققناه، بين الجزئي والعام· وخطورة هذا الموقف غنية عن البيان· ولذلك فإنني أقترح المبادرة بتدارس إنشاء جهاز  لقياس الرأي العام·

ثالثًا: إننا نفتقد على نطاق الوطن العربي توثيقًا حديثًا ميسرًا للإنجازات العلمية في علم النفس بعامة، ولذلك فإنني أتمنى العمل على إصدار دورية منتظمة للملخصات السيكلوچية العربية·

 

السادة الحضور

    لقد جرت العادة أن يتصدر الإهداء مقدمة العمل، ولكني وجدت الأكثر منطقية أن أهدي العمل وقد اكتمل·

    أستأذن في إهداء المحاضرة إلي صديق غاب عن عالمنا بعد أن قضى أحلى سنين شبابه وراء الأسوار ضمن الساعين إلى العدل الاجتماعي، وأعطي أنضج سنين عمره ساعيًا من أجل علم نفس ملتزم بقضايا الجماهير، ودفع الثمن باهظا في الحالتين· اختلفت معه واختلف معه غيري كثيرًا، إلى حد يقرب من الشقاق، بل واختلفت عنه كثيرًا بحيث كنا أحيانًا نبدو نقيضين· ولكنا لم نفقد أبدًا ذلك الرباط الوثيق الذي جمع بيننا طويلًا: ثقة كل منا في أن كلانا مأخوذ بحلم العدل الاجتماعي، وبالأمل في علم نفس ملتزم بقضايا جماهير أمتنا العربية· إلى صديق عمري لطفي فطيم الذي مازلت أفتقده كثيرًا

 

السادة الحضور

    أعتذر لكم عن الإطالة، وأشكر لكم حسن الاستماع

  

سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع : الإصــدار الإنجليــزيالإصــدار الفرنســي

 

Document Code OP.0031

Psychology&PolicyInEgypt  

ترميز المستند   OP.0031

Copyright ©2003  WebPsySoft Arab Company www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)

 

تـقـيـيــمــك لهــذا البحــث

****

  ***

**

*