Arabpsynet

Livres  / كتــب /  Books

شبكة العلوم النفسية العربية

 

فـــي النفــس

بحوث مجمعة في التحليل النفسي، الطب النفسي الجسمي، الطب النفسي، الفلسفة

تأليف د. مصطفى زيور

دار النهضة العربية – بيروت - لبنان

 

q       فهــرس الموضوعــات /  CONTENTS / SOMMAIRE 

 

§         في النفس – مقدمة

أ- مقلات و محاضرات

 بين الميتافيزيقا والفكر العلم  /   جدل الإنسان بين الوجود والاغتراب  /   الطب النفسي والفلسفة المعاصرة (محاضرة)  / عبقرية فرويد /   المعرفة والشفاء  /   وحدة النفس  /  منظور العلاقة بالموضوع في التحليل النفسي  /   الاكتئاب النفسي  /   سيكولوجية التعصب (محاضرة منشورة)  /    أضواء على المجتمع الإسرائيلي "دراسة في التحليل النفسي " (محاضرة منشورة)  /    فصول في الطب السيكوسوماتي  /   فصول في الطب السيكوسوماتي (عود على بدء) /     فصول في الطب السيكوسوماتي "ربو الشعب الرئوية"  /    تعاطي الحشيش كمشكلة نفسية  /   الآباء المشكلون

ب- إذاعيات منشورة

 النسيان  /    أحلام  /   لغة الرمز  /   القمار  /  الحب شراع لا تسير سفن الحياة بدونه  /  هنري الرابع لشكسبير في ضوء التحليل النفسي

ج- تصديرات

  تفسير الأحلام  /   ثلاث مقالات في نظرية الجس.  /   انحراف الأحداث  /   أزمة علم النفس المعاصر  /   الماركسية والتحليل النفسي  /  خمس حالات في التحليل النفسي  /  حالة دورا  /  رجل الفئران  /  حالة شربير  /  رجل الذئاب  /  الأنا وميكانزمات الدفاع  /  المجمل في التحليل النفسي  /   قصة علاج بالتحليل النفسي  /   فصول في علم النفس العسكري  /  مدخل إلى علم النفس  /  علم النفس الإكلينيكي  /    سيكولوجية الحوادث وإصابات العمل  /  علم النفس وقضايا العصر  /  التخييل  /  سيكولوجية النمو  /   ظاهرة تعاطي الحشيش

د- المؤتمرات

-                                                                     دراسة إكلينيكية للقلق العصبي

 

q       تقديــم الكتــاب / PREFACE

§         تصدير بقلم الدكتور أحمد فائق

    هناك قلة محظوظة تضعها الظروف في طريق شخصيات فريدة. ومن بين هذه القلة ندرة تتيح لها إمكانياتها وطبيعتها الخاصة أن تغتنم فرصة التعرف على مثل هؤلاء النادرين فتثرى نفوسها وترقي في آمالها وطموحها. فتلك الشخصيات الفريدة تشع من حولها جوا خاصا من التميز والرقي العقلي والخلقي، فإذا تصادف وكان من حولها من أراد لنفسه مثل رقيها انجذب إليها وانفعل بها. كما تتميز هذه الشخصيات بقدرة على العطاء الكريم لا يحده إلا قدرة المتلقي على التلقي، فإذا تصادف وطلب منها أعطت فأثرى من طلب وقدر قيمة المطلوب. وقد وضعتني الظروفي طريق مصطفى زيور. وأتاحت لي تركيبة من مزاج شخصي واستعداد فطري أن أثرى بتلك المعرفة وأن اغتنم من كرم شخصه بما فاض عن حاجتي أحيانا فأمكنني أن أمنحه بعض من عرفت. ولا أشك لحظة في أن قدرتي على استيعاب منحه كانت أقل من قدرته على المنح. فكثيرا ما تعود بي الذاكرة- وقد تقدم بي العمر- فأجدني قد أضعت بعض الفرص الثمينة التي أتاحها لي ولم أغتنمها، كما كان يجب الاغتنام.

    تعود معرفتي بمصطفى زيور إلى عام 1952. ففي ذلك العام افتتح بجامعة عين شمس أول قسم للدراسات النفسية بالعالم العربي. وكان مصطفى زيور هو صاحب الفكرة ومخطط المشروع ومنفذه ولم يكن ذلك بالأمر البسيط. لقد كان علم النفس حتى ذلك الوقت جزءا من الدراسات الفلسفية. بل لقد وصل الأمر من التغافل الأكاديمي أن فصل علم الاجتماع عن الدراسات الفلسفية في قسم مستقل دون أن ينظر في أمر علم النفس كعلم مستقل. وكان كل ذلك بالرغم من وجود أستاذ عالم فاضل تخصص في ذلك العلم هو "يوسف مراد". لقد احتاج ميلاد علم النفس في الشرق العربي لشخصية تتوفر فيها ما لم يتوفر حينذاك لغيرها. وكان ذلك الشخص هو مصطفى زيور. تخرج زيور في قسم الفلسفة، وسافر إلى فرنسا ليستكمل دراسته ولكنه انعطف إلى دراسة الطب. وما أن فرغ منها حتى هدته أقدامه مرة أخرى إلى النفس البشرية فتدرب على التحليل النفسي كما فتح مداركه لعلم النفس من زاوية عملية. كان علم النفس في تلك الفترة التي أعد فيها مصطفى زيور نفسه للاشتغال والانشغال بالنفس علما يتحسس طريقة إلى مجال الحرف و"الصنعة" و"المهنة". كان علم النفس قد فصل نفسه تدريجيا عن كونه معرفة مكتبية تصلح لأن تكون فرعا من الفلسفة، ليصبح معرفة ميدانية تبشر بميلاد المشتغلين بتلك المعرفة والمحترفين لها كمهنة. لذلك وفق زيور فيما لم يوفق فيه غيره. لقد عرك معرفة النفس في منبتها الفكري الفلسفي، وانطلق من ذلك المعترك إلى الطب النفسي ليخبرها في مرضها وعلاجها، ولكنه لم يرض عما يقدمه المنهج البدني للنفس من فهم لها فاتجه إلى التحليل النفسي ليكمل معرفته بخباياها وأسرار مرضها وشفائها. وبذلك كان أول من أدرك القيمة العلمية لعلم النفس في مصر وأول من اتجه فكره ووجدانه إلى إنشاء قسم يتخرج فيه علماء نفس يتخذون من علم صنعة وحرفة. بعبارة أخرى، لقد احتاج ميلاد قسم مستقل لعلم النفس إلى عالم نفسي يدرك أبعاد عصره ويفهم مستقبل علمه وينفعل بوجدان ما في هذا العلم من إمكانيات تطبيقية.

يعلم الجميع أن مصطفى زيور هو رائد التحليل النفسي في العالم العربي. ويعلم الجميع أنه بزيادته هذه لم يكن بحاجة لأن يكرس جهوده لإنشاء قسم أكاديمي لعلم النفس. فقد كان يكفيه أن يصرف جهده في تدريب غيره على التحليل النفسي فينشر فكرة ويكون لنفسه جماعة من الحواريين والاتباع. وما كان أسهل عليه من ذلك. ولكن، ولدهشة الجميع، تقدم بمشروعه لإنشاء قسم لعلم النفس بكلية الآداب. وأذكر أنه قد قال لي بأنه عندما تقدم بمشروعه إلى إدارة الجامعة حينذاك، أصيبوا بدهشة لتوقعهم بأنه سوف ينشئ قسما للتحليل النفسي. وكاد مشروعه أن يفشل لولا قدرته على إيضاح الأمر لمن عناهم الأمر. لقد كان من المتوقع أن ينشئ زيور قسما لهذا الفرع من المعرفة. وكان من المتوقع، وهو تلك الشخصية النفاذة، ألا يتيح الفرصة لغيره ير يؤثروا في التيار الفكري الذي تبناه. ولكن مثل تلك الشخصيات التي أراد لها قدرها أن تكون رائدة ومتميزة، تنبني على معادن نفسية تظهر صلابتها في مواطن الإغراء. كان من المغري لمصطفى زيور أن يحول الحرية التي أعطيت له إلى مغنم خاص فينشئ قسما للتحليل النفسي لا يدرس فيه إلا ما يصب في وعاء التحليل النفسي. وكان من الميسر له حينذاك أن يختار من يغاونه من بين من لا يؤمنون بغير فكره. ولكنه كان أكثر ولاء لأكاديميته منه إلى ذاته ونزوعه الشخصي. كان مصطفى زيور قد قرر لقسمه أن يكون جزءا من الأكاديمية وليس مرتعا لطموحه الخاص.

    ضم برنامج القسم مداخل العلوم والفلسفة، كما ضم فروع علم النفس التجريبي والقياس النفسي. وضم كذلك تلك الدراسات التي لا غنى عنها لعالم النفس المثقف مثل الإحصاء وعلوم المجتمع البشري. أما التحليل النفي فكانت فصلة واحدة في برنامج العام الثاني من الدراسة وأخرى في برنامج العام الرابع. ورقع اختياره على مساعديه في شخص لويس كامل مليكه، وعماد الدين إسماعيل، والسيد محمد خيري، وعطية هنا وعبد المنعم المليجي وكلهم من علماء النفس التجريبيين. ولم ينضم إلى قائمة مساعديه من المحللين سوى مصطفى صفوان. وكان نتيجة كل ذلك أن تخرج في قسمه أول رعيل من علماء النفس المحترفين ممن أخذوا سبيلهم في الحياة كأخصائيين نفسيين. وكان من نصيبي أن أكون من بين أول دفعة تخرجت من القسم وأن أكون أول من شغل وظيفة حكومية لقبها "أخصائي نفسي"، وكان ذلك بوزارة الصناعة، تميز خريجو هذا القسم بأساس راسخ من التقاليد التجريبية والقياس النفسي، ولكنهم كانوا كذلك على دراية طيبة بحدود هذه المعرفة وعلى إطلاع لا بأس به في مجال التحليل النفسي وثرائه وقد ظل هذا المزيج النادر خاصية خريجي القسم إلى فترة طويلة ولا زال لهذا التقليد آثار في خريجي القسم حتى بعد أن ابتعد عنه مصطفى زيور بعض الابتعاد. ولعل أهم ما في هذه المقدمة التاريخية لدور زيور في علم النفس بمصر هو موقفه من الدراسات العليا. كان مصطفى زيور أكثر إصرارا على أن تكون الدراسات العليا في القسم ذات صبغة تجريبية ومهما كان نزوع الطالب في مجال تخصصه، لقد آثار إصراره ذلك في بعض النفوس حنقا وغضبا. ولم يدرك الحانقون الغاضبون حكمته هذه إلا بعد أن استجابوا لإصراره. وكنت أنا من أكثر الحانقين غضبا. لقد أردت- كما أراد بعض غيري- أن نتجه إلى مجال غير تجريبي في دراساتنا العليا وإزاء إصراره تقدمنا برسائل تجريبية لنيل شهادات الماسجتير والدكتوراه وها آنذا أعود إلى الوراء لأدرك حكمة هذا الرجل في إصراره، كانت فترة الدراسات العليا هي الفترة التي نضج فيها العالم فينا. فبدون الخبرة التجريبية ما كان يسهل علينا أن ندعي علما بالنفس أو ندعي رفضا للاتجاه التجريبي إذا كان ذلك الرفض أمرا أردناه. بعبارة أخرى، لقد أراد لنا مصطفى زيور أن نرقي بمعرفتنا التجريبية حتى إذا اتخذنا موقفا كنا في ذلك الموقف صادقين مع أنفسنا. ولم يكن لمثلي وأنا من المعترضين على أمور في التجريب، أن يعترض بلغة من لم يكن قد خبر هذا المجال كما يجب أن تكون عليه الخبرة.

   أود بتلك النبذة التاريخية من أبرز جانبا في شخصية مصطفى زيور قد تخفى على من لم يعرفه معرفة شخصية. أن الخلاف بين المحلل النفسي وعالم النفس التجريبي خلاف يتعدى حدود المعرفة ذاتها ليصل إلى مشارف الذات ونرجسيتها. فعالم النفس التجريبي لا يؤمن إلا بما يحس فيقاس، ولا يعرف لذلك سبيلا إلا بضبط ظروف ما يريد معرفته وقياسه. لذلك تتركز نرجسية المجرب في أحكامه ظروف عمله وفي إنكاره لدور نزعاته الشخصية في نتائجه. بعبارة ثانية، تتركز نرجسية المجرب في انعزاله عن تجربته أما المحلل النفسي فيؤمن بأن حسه وقياسه ليسا بمبعدة عن عوامل مضللة عدة، بعضها فيما يحسه ويريد قياسه وبعضها في ذاته هو كحاس وقياس. لذلك تتركز نرجسيته في قدرته على كشف هذا التضليل بصورة مستمرة ولقدرته على أن يكون جزءا من التجربة دون أن يفسد مشاركته فيها ما يجب أن يخرج به منها. بعبارة أخرى تتركز نرجسية المحلل في عدم رفضه لأن يكون المجرب والمجرب عليه في نفس الآن. لذلك يتعدى الخلاف بين المحلل والمجرب حدود المعرفة لأنه خلاف بين نرجسيتين متضادتين. وهنا ما يثير تساؤلا هاما بصدد مؤلف هذا الكتاب. كيف تأتي لمصطفى زيور- لذلك المحلل الذي انغمس في ذات مرضاه دون حرج أو وجل- أن يرأس قسما يرسي تقاليد الموضوعية والقياس والانعزال عن مادة البحث بما يسمح بالتجريب عليها دون تأثير من الباحث! كيف تأتي لمصطفى زيور المحلل أن يرأس قسما لعلم النفس وأن يرأس مجموعة من علماء النفس التجريبيين المتمرسين.

لا يصعب على من عرف مصطفى زيور معرفة شخصية بأن يجيب على ذلك بأنه ظاهرة أصيلة في الموضوعية. لم يكن زيور موضوعيا بمعنى مبتذل. فهناك موضوعيون تنبع موضوعيتهم من حياد مصطنع جاف، وهناك موضوعيون لا تزيد موضوعيتهم عن رياء وتكلف. أما زيور فكان صاحب انفعال شديد بفكره، (بكل ما تعنيه دلالة الانفعال). ولكنه ما حرم أحدا عرفه من اتخاذ نفس الموقف بالنسبة لفكره، بل رأيته في أحيان كثيرة مهموما لعدم ثبات معارضيه على رأيهم وعدم انفعالهم بعقيدتهم. لقد كان زيور أكثر الناس حرصا على إعلان التزامه بفكرة مستنفرا في معارضيه حرصا مقابلا على التزامهم بفكرهم. ولي معه في ذلك خبرة شخصية أذكرها لإبراز موضوعيته في بعدها العميق. ولست متحرجا من ذكر تلك الخبرة الشخصية لأنني موقن بأنني لست الوحيد من بين طلبته الذي تعرض لها. بعد تخرجي في القسم استجبت لإصراره على أن تكون دراساتي العليا في مجال التجريب. إذ عنت لهذه الرغبة كارها فأعددت رسالتين تجريبيتين لنيل درجة الدكتوراه. وما أن انتهيت حتى ظنت أنني قد أصبحت حرا في أن أنمي اهتماماتي بالتحليل النفسي وأن أعد نفسي للتدريب عليه، مقتفيا أثر أستاذي إلا أن ظني قد خاب. لقد بدأ معي مصطفى زيور حوارا غريبا في نوعه. لبس هو لباس التجريبيين يحاورني ويجادلني في التحليل النفسي متحديا اقتناعي بعلميته. وكان حواره غريبا على فهآنذا أمام تجريبي متمرس يعرف خبايا التحليل النفسي معرفة تفوق معرفتي يطلب مني إقناعه بقيمة التحليل النفسي. وأصبح جدله معي طقسا لا يمر يوم دون أن أقوم به، وكثيرا ما كان جدله يثير في الغضب عليه عتابا على تشككه هذا في التحليل النفسي. وشرعت في الرد عليه كتابة فانتهيت إلى أكثر ما كتبت قيمه وأشد ما أعتز بنشره. كان ذلك المؤلف نتيجة جدل عميق- عنيف أحيانا- دافعت فيه عن التحليل النفسي إزاء هجمات محلل نفسي أصيل الفهم للإنسان شديد الحرص على قيمته. وتمتد قيمة هذا المؤلف إلى ما أحدثه جدلي مع مصطفى زيور في نفسي: ألا أسكن إلى الاعتقاد دون أن أجادل فيه غيري فإن لم يكن فلأجادل فيه نفسي فأما أن ترضى وأما أن تأبى، أما أن تنجح في إرسائه، وأما أن أتخلى عنه غير آسف. هكذا كانت موضوعية مصطفى زيور، إن لم يجد من يقيم معه حوارا خلق في نفسه ذلك الحوار وكان فيه أشد قسوة على هنأت الفكر من أي معارض يقابله.

كان لهذا اندرس أثر لا ينمحي في تطوري كعالم نفس ومحلل نفسي.  فعالم النفس الأصيل لا يقبل فكره أن ينزلق إلى مدارك التصديق على مطلوب، كما أن المحلل النفسي لا يقف في فهمه عند حش يخدعه ويمده بفهم مبتسر. ففي بداية حياتي العملية ذهبت إليه بحالة شاب يعيش مع أسرته الكبيرة في سكن محدود بحي شديد الضجيج. وكان الشاب قد أتى يشكو من عدم قدرته على التركيز في دراسته لظروف سكنه وكثرة الحركة في بيته. وأردت بعرض تلك الحالة على الأستاذ أن أبين له كيف تحد الظروف الاجتماعية من قدرة عالم النفس على تقديم المساعدة. ونظر إلي في دهشة قائلا: إذا كانت مشكلة هذا الشاب اقتصادية أو اجتماعية كما تود أن تقنع نفسك، فما الذي دفعه لطلب مساعدة أخصائي نفسي. وعدت إلى مريضي بذهن متفتح لأكتشف كيف خدعني حسي وقادني للتغافل عن مصارعة هذا الشاب لنزعات جنسية تؤرقه وتشتت خاطره. لقد أراد لتي مصطفى زيور أن أجادل نفسي مهما بدت لي الأمور واضحة. أراد لي جدلا لا ينتهي مع من يخالفني ومع من يوافقني. لقد تعلمت منه. وأنا الجدلي عقيدة وفكرا والتزاما- معنى ما التزمت به كمنهج وموقف من الحياة.

    مصطفى زيور، أكاديمي موضوعي جدلي، قد يختلف عن غيره درجات ولكنها لن تفسر لنا ما امتاز به من تأثير لا يزول ومن حضور لا يمكن لراض أو كاره أن يتغاضى عنه. ولا أدعي أنني أعرف تماما ذلك العنصر الخاص الذي إذا امتزج بالشخصية جعلها فريدة وجعل منها لواء يتبع. ولكن هناك صفة في مصطفى زيور لم أجدها في غيره ممن ظن فيهم تلك الندرة. صفة الأمومة والأبوة معا. عرفت رجالا أحبهم مريديهم حب الطفل لأمه، :عرفت رجالا تطلع إليهم معجبيهم تطلع الصبي لأبيه. أما زيور فكان مزيجا نادرا من مزيجا نادرا من الإثنين. يتمتع مصطفى زيور بما تتمتع به الأم الطيبة الحنون من طاقة حب لا تنفد وصبر على مطالب أبنائها لا يكل. كثيرا ما لوحظ مصطفى زيور يدبر شؤون أحد أبنائه في صمت ليعطيه فرص النمو دون أن يتدخل تدخلا سافرا حتى لا تضيع فرحة النجاح وسط الشعور بالجميل. وكثيرا ما عرف عنه تدخله السافر- الجامع أحيانا- لحماية أحد أبنائه إذا شعر بأن ظلما قد وقع عليه أو كاد، بينما هذا الابن لا زال ضعيفا لا يقدر على حماية نفسه. وليس من النادر أن شوهد مصطفى زيور يألم من تصرفات ناكرة للجميل تصدر عن أحد مقربيه، دون أن يغير ألمه من إحساسه بواجب الأم إزاء ابن شط، لم يكن يتوانى عن زجر من يشط عن الطريق إذا غوى فيعيده بزجره الوقور إلى صوابه دون إيذاء أو إهانة. وأرجع تلك الصفات إلى أمومته وذلك من وجهة نظري كمحلل نفسي. فالأم تسكن في أعماق النفس لتعطيها جوهرها. فإذا كانت طيبة جاء الأبناء على طيبة أمهم الحنون، وإذا كانت على خبث سكنت في نفوس بنيها خبثا ومرضا لقد جاء كل من تبناهم برعايته على طيبة وكرم وسخاء، لقد منح. زيور نفسه الطيبة لتتمثل (أو كما يقول آل التحليل النفسي لتستدمج) فكان لتمثلها أفضل الأثر فيمن عرفوه.

أما أبوته فأكثر وضوحا للعين. فمصطفى زيور بالنسبة لمن عرفوه "قانون واضح" يفرق بين الحق وبين الباطل، يميز بجلاء بين المسموح وبين الممنوع، ويحدد الواجب والمسؤولية في غير عناء إلا أن هذا القانون أكثر من كونه قاعدة تلتزم بل هو قاعدة تحتذي. فلا أعلم شخصا أو عن أحد أنه قد طبق هذا القانون على غيره ولم يطبقه على نفسه. لذلك كثيرا ما اختلط الأمر على قلة معدودة فظنوا أنهم يخافونه ولذلك يطيعونه أما من عرفوه معرفة وثيقة فكانوا يلتزمون به خشية فقدان حبه واحترامه لا خوفا من بطش وعقاب لا يذكر أحد لمصطفى زيور أنه قد انتقم من أحد أو أشاع في نفس أحد هذا الانتقام وبالرغم من سلطته الفعلية وسلطته الشخصية لا يذكر له أحد أنه قد استغل تلك السلطة في لحظة غضب أو حتى في موقف كان له فيه الحق في استعمالها. ففي مناسبة لا أود ذكر تفاصيلها زجرني أستاذي لميلي إلى تصرف به لمسة من إعطاء نفسي الحق حينما كانت لي سلطة التنفيذ. وكان زجره درسا لا ينسى إذ قال إذا أعطيت نفسك هذا الحق اليوم وأنت تعلم أن لديك القدرة على تنفيذ رأيك فسوف يأتي اليوم الذي تخدع فيه نفسك فتعطيها الحق لمجرد أن في يدك سلطة التنفيذ، ولا أنسى هذا الدرس وغيره من الدروس التي تعلمتها وتعلمها معي غيري من زملائي ونحن نشاهد هذا الرجل يتصرف في أمور أكثر حساسية ودقة. ولعل هذا العزوف عن إشاعة الخوف في النفوس- بل والحرص على إشاعة الطمأنينة التي تجلب الكرامة معها- هي ما أرادنا احتذاءه ففي كثير من الظروف السياسية الشاقة التي مرت بنا كان مصطفى زيور شامخ الرأس لا يهاب معتدا بحقه لا يلين. لقد كان نموذج الأب الذي لا يرهب فلا يرهب بل يحترم فيحترم تلك الخاصية كانت أكثر وضوحا للعيان عما كان خلفها من قدرة على القيادة من بعد وعلى التأثير لون ادعاء.

تلك الانطباعات والذكريات تقودني إلى ما سوف يحتويه هذا المؤلف:  مصطفى زيور العالم. فكل ما قيل في ميزات هذه الشخصية النادرة قد ينطبق على قلة أخرى. ولكن عندما تجتمع في تلك الشخصية مقدرة علمية وافرة وأصيلة كما هو الحال مع مصطفى زيور يأخذ العلم طبعا مختلفا كما تأخذ الشخصية شاكلة مختلفة. بالرغم من موسوعية مصطفى زيور واتساع ثقافته فلم أسمعه يوما يتكلم عن أمر أو في أمر ليست له به معرفة شاملة وتفضيلية كان يتأبى عن الحديث فيما هو سطحي أو التحدث بصورة سطحية تعطي انطباعا كاذبا عن علمه. فضلا عن ذلك، لم أشهده يوما يتطرق إلى ما هو غث وتافه من الأمور. لذلك، وعندما أنظر إلى ثلاثين عاما من المعرفة به أرى تلك المعرفة ثراء ما بعده ثراء فما مر بي يوم لم أستفد فيه علما ولم أغتنم عدى، و أنا في حضرته، وبالرغم من هذا كان يقدم أعقد ما في علمه لنا في سلاسة وسهولة تكاد تغري بالغي. فبعد أن أتيحت لي الفرصة لتدريس بعض ما درسته عليه تبينت ذلك الفارق الذي يفصل الأستاذ عن المدرس. كان أستاذا يصدر العلم منه، أما المدرس فكان العلم يصدر عنه. ففي محاضراته كنا نستمع إلى مصدر العلم الذاتي وليس لناقل لهذا العلم. لهذا توجد في شخص زيور شخصية العالم ولعل ذلك أبرز ما سوف يلاحظه القارئ في مؤلفات زيور. سوف يلحظ القارئ أن علم زيور هو علمه هو وليس علما منقولا. سوف يلحظ القارئ أن ما كتبه زيور كان خبرته الذاتية. ولا أدل على ذلك من دراساته في الطب السيكوماتي، فبصمات زيور على هذا الفرع تشير إلى ريادته في هذا الميدان وتدل على امتزاج القدرة الطبية والمعرفة النفسية في مجال كان- ولا زال- مدعاة للعجب والدهشة... ولا ينقص زيور قدرته على الاحتفاظ بعجب ودهشة العالم أمام ما يحتاج أن يكتشف. ولكن لن يلحظ القارئ نطاقا آخر من علم زيور. ففي عشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه التي أشرف عليها زيور ترك زيور آثارا لا تمحي. لقد وضع في كل رسالة من هذه الرسائل جزءا من نفسه منحه بسخاء وأعطاه لأبنائه ليبنوا عليه علمهم ومعرفتهم. هذا الجزء من علمه- وهو جزء كبير- قد كتب له خلود من نوع آخر. ففي كل من تخرج على يد مصطفى زيور جزء من مصطفى زيور بقي البعض منهم على أرض الوطن ينقلونه جيلا بعد جيل. ورحل به البعض إلى المشارق والمغارب ليمدوا من أثر هذا الرجل إلى ما هو أوسع من الوطن.. إلى كل مكان يمكنه أن يثري من ثراء الأستاذ.

 

Document Code PB.0137

http://www.arabpsynet.com/Books/Ziwar.B1 

ترميز المستند   PB.0137

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)