Arabpsynet

Livres  / كتــب /  Books

شبكة العلوم النفسية العربية

 

الإبــــداع

قضــاياه ... وتطبيقــاتـــه

د. عبــد الستـــار ابراهيـــم

Sattar@yahoo.com

dribrahm@kfupm.edu.sa

مكتبـــة الأنجلـــو المصريـــة- 2002

 

 

q       فهـرس الموضوعـات /  CONTENTS / SOMMAIRE

 

§         الباب الأول : أضواء على الدراسة النفسية العلمية للإبداع.

-        الفصل الأول: الأوجه المختلفة للإبداع. النص الكامل Full Text
-        الفصل الثاني: السبيل العلمي في دراسة الإبداع..
-        الفصل الثالث: انبثاق الفكرة الإبداعية وتطورها.
-        الفصل الرابع: العوامل المعرقلة والعوامل الميسرة واللحظات الحرجة في العملية الإبداعية.

§         الباب الثاني : جوانب من شخصية المبدع.

-        الفصل الخامس: الدوافع العامة والخاصة.

-        الفصل السادس: المبدعون: اتجاهاتهم الاجتماعية وأساليبهم في التفكير والاعتقاد.

-        الفصل السابع: امتثال أم رفض؟

§         الباب الثالث : في تنشئة المبدع والمجتمع المبدعين.

-        الفصل الثامن: وجهتان من النظر.

-        الفصل العاشر: المناخ الاجتماعي المبكر في حياة المبدعين.

-        الفصل الحادي عشر: المناخ التربوي وتربية القدرات الإبداعية.

-        الفصل الثاني عشر: المناخ الاجتماعي العام ومجتمع المبدعين.. فهرس تفصيلي بالموضوعات والأسماء.

§         مصادر ومراجع عربية وأجنبية. 

§         إصدارات للمؤلف.

 

q       تقديم الكتاب / PREFACE

     تدور فكرة هذا الكتاب حول تقديم نتائج دراسات سيكولوجية حديثة للإبداع: من حيث أبعاده الرئيسي وتطور الأفكار الإبداعية وخصائص الشخص المبدع ثم إمكانية تدريبه. وقد ظهر اهتمامي بهذا الموضوع منذ فترة مبكرة من حياتي المهنية.. ذلك الاهتمام الذي تبلور في مجموعة من الدراسات للأصالة استمرت ما يقرب من أربعة أعوام: وفى غمار تلك الدراسات وما انطوت عليه من أرقام وإحصاءات وتحليلات فنية دقيقة التخصص، بدأت أفكر في مشاركة المثقف العام الجاد بعض تلك النتائج مجردة عما فيها من أرقام، وتولدت هذه الرغبة عن هذا الكتاب.

    وقد ألزمت نفسي بشكل عام بتقديم صورة للإبداع، تقوم كلها على الدراسة السيكولوجية العلمية لهذه الظاهرة التي فتحت- أمام أجيال من الباحثين السيكولوجيين المعاصرين- الميدان واسعا لتولي الكشف عن تلك الظاهرة وتطويعها للضبط والتطبيق العملي والاجتماعي.

    ورأيت أن أقدم للقارئ تصوري للإبداع في أبواب ثلاثة، يتضمن الباب الأول عرضا عاما وتحليلا لعناصر المنهج العلمي في دراسة الإبداع، وعناصره المختلفة وظهور الفكرة الإبداعية وتطورها في عقل المبدع. أما الباب الثاني فقد ضمنته فصول ثلاثة تلقى فيما بينها بعض الضوء على شخصية المبدع وسماته المزاجية، ومعتقداته الفكرية والدوافع التي تدفعه للإبداع بشكل خاص. كما أفردت في هذا الباب فصلا عن الصراع الذي يعيشه المبدع بحكم ما تمليه عليه إبداعاته من رفض واختلاف اجتماعي، وما تمليه عليه رغباته في التوافق لهذا المجتمع.

    أما الباب الثالث فقد ضمنته فصولا عن إمكانية تعلم الإبداع وأساليب هذا التعلم، ثم الظروف الاجتماعية المختلفة والعامة التي تساهم في تكوين المبدع. وقد حاولت أن أقدم برنامجا لتدريب القدرة على الإبداع وتنشد ة المبدعين، تتفاعل من خلاله الأسرة بالنظام التربوي، والنظم الاجتماعية العامة.

    والذي أود أن أنبه له القارئ أن هذا الكتاب يقوم على فلسفة نظرية للباحث، محورها نظرية التعلم الاجتماعي والتي بمقتضاها نعالج الإبداع بوصفه سلوكا قابالا للضبط، وقابلا للتعلم الاجتماعي، والتدريب. وفى هذا الإطار تعتبر فصول هذا الكتاب محاولة لبلورة منسجمة ومتسقة من الحقائق في ميدان الإبداع، وما يكتنفه من مشكلات اجتماعية تعوق أو تيسر ظهوره. كذلك حاولت أن أحقق بعض التوازن من حيث نتائج البحوث الأنجلو أمريكية والبحوث المصر- عربية، فاعتمدت لهذا السبب على نتائج البحوث التي أجريت في المجتمع المصري وتتوازن مع تلك التي أجريت في الغرب.

الرجوع إلى الفهرس

 

q       الفصـل الأول: الأوجـه المختلفـة للإبـداع  -  . النــص الكامــل

 

"العبقرية مثلها مثل درجات الحرارة شديدة الارتفاع التي لها القدرة على تفكيك تجمعات الذرة ثم إعادة تنظيمها مرة أخرى في نظام مختلف كلية".

"بروست"

"العبقرية دالة على رغبة في التغير، والتغير اشتياق وتطلع إلى عالم آخر جديد".

"صموئيل بتلر"

 

   هب أننا سألنا بضعة من الأشخاص عن الصورة التي يحملها كل منهم عن الشخص المبدع وخصائص العمل الإبداعي، أو هب أنك سألت كل واحد منهم منفصلا عما يجعله يؤمن بعبقرية "شكسبير" أو "بيكاسو"، أو "أينشتاين" أو "نجيب محفوظ"، أو "ابن سينا'، سنجد من المؤكد تفاوتا ضخما بين الأفراد في الأحكام التي يحملها كل منهم عن مظاهر العبقرية والنبوغ لدى هؤلاء.

   فبعضهم قد يرى في الإبداع مظهرا من مظاهر خصوبة التفكير وسيولته، ومعيارا لفيض لا ينضب من الأعمال. فالعبقري- في نظر هؤلاء- أشبه بالعجلة الحربية التي لا تكف عن إشعال الشرر. أنظر مثلا إلى "أبو بكر الرازي"- الملقب ب "جالينوس العرب" لعبقريته الطبية- إنه يذكر عن نفسه أنه كتب بمثل خط التعاويذ المنمنمة وفى عام واحد أكثر من عشرين ألف ورقة، حتى: "ضعف بصري وحدث لي فسخ في عضل يدي". ولم يقتصر على كتاب "الحاوي" الذي يعتبر من أهم الكتب الطبية التي مهدت لنشأة الطب الغربي المعاصر، بل كتب في التاريخ والفلسفة، بل إنه زاول الموسيقى والغناء وصارا بفضله لونا من ألوان العلاج التي تبناها الطب النفسي المعاصر في أيامنا هذه (أحمد محمد الشنواني، كتب غيرت الفكر الإنساني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997).

   ولم يعرف "شكسبير" ب "هاملت" بل كتب أيضا "عطيل"، و "الملك لير"، و "ماكبث "، و "الملك هنري الرابع". وكتب في الكوميديا بالقدرة نفسها التي كتب بها في المأساة. ومسرحياته تربو على العشرات، وقصائده تتجاوز المئات. وبداخل كل منها فيض غزير من الصور. ولم تنبن شهرة الروائي المصري المعروف " نجيب محفوظ " على تأليف "الثلاثية"، بد إنه كتب قبلها وبعدها عشرات الروايات والقصص بما فيها "كفاح طيبة"، "رادوبيس" و "

زقاق المدق" ، " بداية ونهاية" ، " الكرنك " ، " خان الخليلي"، "الحرافيش"... الخ. وهكذا أيضا "بيكاسو"  لم تنبن شهرته على لوحة واحدة في اتجاه واحد، بل إن لوحاته تزيد على المئات، وكل لوحة منها تحفل بعديد من المنبهات، والألوان، والموضوعات. وفى مجال العلم لم تنبن شهرة علماء من أمثال "نيوتن" و "أينشتاين" على نظرية واحدة- على الرغم من أن شهرة الواحد أو الواحدة منهم اقترنت بذلك- بل إن لكل عالم مجالات علمية أخرى قد برز فيها بتفوق. صحيح أن " نيوتن" مثلا قد ارتبط اسمه بنظرية الجاذبية. ولكن نظرياته في الضوء والبصريات لا تخفى على أحد من المتخصصين. وهكذا أيضا يمتاز كل من استحق أن نطلق عليه لفظ عبقري بجدارة.

   وأصحاب هذه النظرة التي تهتم بالكم والخصوبة لا يعنيهم الاهتمام بعمل بعينه من حيث نتائج هذا العمل وقيمته في دنيا الإبداع الفني أو العلمي، ولكن تعنيهم كمية الأعمال المنتجة بغض النظر عن كيفها. ومن ثم، نجد طائفة أخرى لا تهتم بهذا الكم، بمقدار ما تهتم بتنوع الأعمال الإبداعية، وقدرة المبدع على تشكيل حالاته الذهنية والعقلية بطرق مختلفة. فالعبقري في نظر هؤلاء يملك فكرا أشبه بحبات الخرز التي تنتظم في أشكال متنوعة وخصيبة. وعن مثل هذا الأمر يتحدث بعض نقاد الأدب في تقييمهم لكثير من الأعمال الأدبية والمسرحية: هل استطاع صاحبه أن يتجاوز نفسه؟ هل استطاع أن يتخطى الأعمال التي سبق له أن قدمها من قبل؟ أم أنه ظل أسيرا لمجموعة محددة من الأفكار الضيقة المتصلبة مما يطبع أعماله بطابع من الجمود وضيق الأفق؟

   في نظر هؤلاء لا يكون مقياس الإبداع والعبقرية بالنسبة " لشكسبير" مثلا وعشرات المسرحيات المأساوية والكوميدية التي نسجها، ولا مئات القصائد الشعرية التي زخرت بها أعماله، ولكن المقياس في نظر هؤلاء هر مدى التنوع الذي صاغ به "شكسبير" شخصيات مسرحياته، وقصائده، والموضوعات الجديدة التي يحملها كل عمل من أعماله. إن أي عمل جديد "لشكسبير" تبدو فيه- بالرغم من الطابع العام لشخصيته وأسلوبه في الكتابة- روعة المحاولة للتحرر من منظور العمل السابق وموضوعه. فلم يكرر فكرة، ولم يستخدم صوره الشعرية بصورة جامدة متكررة. فالمأساة في "هاملت" اختلفت عن غيرها من المآسي والتراجيديات التي وضعها، وتختلف أيضا معالجة مضمونها عن مضمون المأساة في " لير" أو "عطيل".

   وبالمثل نجد أنه على الرغم من تميز "نجيب محفوظ" بوجود أسلوب خاص به في الكتابة والتأليف، إلا أن المضمون ومسرح أحداث رواياته، اختلف من رواية إلى أخرى، ف "كفاح طيبة" تصف حقبة تاريخية قديمة في تاريخ مصر الفرعوني. لمكن الثلاثية تصف أحداثا وتعرض لأشخاص في أحياء القاهرة الشعبية الحديثة. وفى " الشحاذ " مارس " محفوظ " قدراته على التحليل المتعمق لشخصية واحدة بعينها واصفا ما تمر به هذه الشخصية من تطورات تفاعلت في إحداثها الظروف الخارجية والفردية الخاصة بهذه الشخصية، وكأنه عالم نفسي قدير يصف حالة من الحالات النفسية في عيادته أو مستشفاه. وهكذا أيضا تبدو عبقرية "ديستوفسكي" أو "ديكنز" و" ليوناردو دافنشي" : قدرة على تخطي الذات، والتحرر من النظرة الجامدة، والتفتح على عالم متنوع وخصيب بالرؤى والصور والأشكال والموضوعات.

   واتخذت عبقرية "ابن حزم الأندلسي" في التراث الإسلامي والعربي اتخذت شكلا هاما، فهو يعتبر أمتع من كتب عن الحب والعشاق وسيكولوجية العلاقات الإنسانية في كتابه "طوق الحمامة في الألفة والآلاف"، ولكنه فضلا عن هذا كان فقيها وكان طبيبا وكان فيلسوفا يرجع إليه الناس فيما يستعصي عليهم من أمور في هذه الموضوعات وغيرها من أمور حياتهم، وله في هذه التخصصات مؤلفات معروفة لها قيمتها في التراث الإنساني.. الخ.

   لكننا قد نجد أيضا من ينظر للعبقرية والإبداع بمنظور آخر، ومن يقول بأن مقياس العملي الإبداعي يكمن في وزن العمل وقيمته لا بالنسبة لأعمال المفكر الواحد، ولكن بالنسبة لوزنه بين الأعمال الأخرى لعديد من المفكرين. فهل استطاع هذا العمل أن يقدم رؤيا جديدة؟ وهل استطاع أن يقدم تأليفا جديدا بين أشياء متناقضة بحيث يلقى على بعض الظواهر أضواء لم تكن ملقاة عليها من قبل؟ وصاحب هذا الرأي قد لا يعنيه مقدار ما أنتج الفكر، ولا مقدار التنوع في أعماله فحسب، بل إن ما يعنيه أساسا هو وزن العمل، وقيمته في دنيا الأعمال الأخرى من حيث جدته، وأصالته، وقدرته على الامتداد بحدود الخبرة إلى آفاق جديدة. وإذا ما قيست الشخصية المبدعة بهذا المقياس فإن الحكم عليها، وعلى العمل الإبداعي يصبح شديدا وصارما نسبيا. وعلى مر تاريخ الفكر البشري قد لا تتجاوز الأعمال الإبداعية- بهذا المقياس- العشرات. وقد لا يزيد عدد الأعمال الإبداعية للمفكر الواحد عن واحد أو اثنين على الأكثر، هو الذي اكتسب من خلاله الشهرة والتقدير. فمن بين كل مؤلفات "داروين" يبرز "أصل الأنواع" في نظريات التطور، ومن " كارل ماركس" رأس المال، ومن "دستوفسكي" "الأخوة كارامازوف" ومن " نيوتن" كتاب " برنكيبا "، ومن " بافلوف" المجلد الموسوم " الأفعال المنعكسة الشرطية " ومن "فرويد" يبرز " تفسير الأحلام "، ومن "طه حسين" يبرز "الأيام" من بين عشرات الكتب التي وضعها أو وضعها آخرون في التراجم الشخصية، ومن " نجيب محفوظ " الثلاثية "، ومن " توفيق الحكيم" عودة الروح ومن "عباس العقاد" "عبقرية محمد" ومن "ابن سينا " يبرز "القانون" كأحد أهم المراجع الطبية الرائدة في تاريخ الممارسة الطبية، ومن "ابن حزم الأندلسي" برز كتابه "طوق الحمامة في الألفة والآلاف" ومن عشرات الكتب التي وضعها أبو بكر الرازي يبرز كتاب " الحاوي "، ومن "أبو العلاء المعري" تبرز رسالة الغفران، كأثر أدبي خالد تشبه فيما يذكر "طه حسين" بالآثار الغربية الخالدة مثل "الكوميديا الإلهية" لدانتي، أو " الفردوس المفقود" لميلتون، وهكذا.

   وبهذا قد يصبح العمل الإبداعي نادرا ندرة وجود هذه الأعمال الموسومة وما شابهها. ويصبح الحكم على عمل ما بأنه مبدع ومتميز صارما صرامة الشروط التي حققت من خلالها هذه الأعمال- التي ذكرناها- الخلود لها ولأصحابها.

   وقد يتصور البعض أن المبدع شخص يتسم بحساسية مرهفة، وقدرة على الإدراك الدقيق للثغرات، والإحساس بالمشكلات وإثارتها. فمنظر غروب الشمس قد لا يثير عند الشخص العادي أكثر من مظاهر الترف لما يتطلبه ذلك من جوانب التكيف المختلفة التي يفرضها مقدم الليل.

   أما بالنسبة لشاعر مبدع فإن مغيب الشمس قد يكون بؤرة لكثير من المشاعر بمقاييس الحساسية المرهفة والوجدان اليقظ، أو أنه الوقت الذي يضع فيه الشخص.

 

§         الرأس في اليد وفى العيون ألغاز وفى النفس اكتتاب مثل اكتئاب العاشقين

   كما كان يحلو ل " إيليا أبو ماضي" الشاعر المهجري العربي المعروف أن يصف مقدم المساء.

   وقد شاهد الملايين قبل "نيوتن" ثمارا تسقط من أشجارها، غير أن مشهد التفاحة وهى تسقط من شجرتها في حديقته ب "ولثروب" Wolthrop  كان يحفل بالنسبة له بكثير من المشكلات والأسئلة الغامضة، التي انتهت به بعد ذلك إلى إجابتها من خلال نظريته عن الجاذبية الأرضية.

   وفى المجال الاجتماعي لم تأخذ مشكلة التفاوت الضخم بين الطبقات وتوزيع الثروة أكثر من صورتها القدرية الساذجة، أما بالنسبة لكارل ماركسي، فقد كانت مصدرا لإثارة الكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي نبهـته بعد ذلك لكتابة المجلدات الضخمة عن هذا الموضوع. وعندما لاحظ "بافلوف " أن الكلاب في معمله بجامعة " سان بترسبرج" كانت تفرز اللعاب سواء عند وضع مسحوق اللحم في أفواهها، أو عند مجرد سماعها لصوت خطوات المجرب وهو يتجه نحوها ليطعمها سواء بسواء، أحس بأن هناك ظاهرة تحتاج للتفسير، ومن ثم كان ذلك بداية لوضعه نظرية التعلم الشرطي، التي ندين لها بكثير من المنجزات في فهم السلوك الإنساني والحيواني على السواء. (للمزيد عن نظرية "بافلوف" في التعلم الشرطي، نحيل القارئ لكتابنا أسس علم النفس، 1987).

   وأخيرا- وليس آخرا- فقد يثير البعض تصورا آخر للعبقري والمبدع. فالمبدع في الفن أو العلم هو ذلك الشخص القادر على إدراك الروابط الخفية بين الأشياء. فالخاصية العامة التي تجمع بين الاختراع والتفكير العلمي، والخلق الفني تتبدى في مدى السهولة واليسر لدى الفنان أو العالم أو المخترع في إعادة ترتيب عناصر سابقة في صياغة جديدة. فالعالم والفنان مثلا كلاهما يتساوى مع الآخر بزاوية ما. فكما يحول الفنان خبرته بالبشر إلى رواية أو مسرحية، فإن العالم يختبر البيانات التي جمعها- بجهده أو بجهد الآخرين- ويحولها إلى صياغة نظرية جديدة. فكلاهما- إذا- يعيد صياغة أنواع محددة من المعلومات والخبرات الموجودة في نمط أو نظام أو شكل جديد.

   ولا يعجز أصحاب هذا الرأي الأخير عن أن يجدوا الأدلة المتعددة لإثبات ذلك؟ فعبقرية "نيوتن" ظهرت في قدرته على الربط بين سقوط التفاحة والجاذبية، و "فرويد" في قدرته على الربط بين هفوات اللسان، وزلات القلم والأحلام، بعالم اللاشعور، والرغبات المكبوتة، و"بافلوف" في قدرته على الربط بين إفراز اللعاب والمنبهات الشرطية، والشاعر والأديب الروائي تتخلق مواهبهم الأصيلة وتتكون من خلال قدرتهم جميعا على الربط بين العناصر الحسية والخبرة الماضية في شكل جديد، بتأثير من القدرات العقلية، والحياة العاطفية، ورؤيتهم الأيديولوجية للواقع. إن "فولستاف" في "الملك هنري" ليس مجرد شخص عربيد. والحذاء في لوحة "فان جوخ" المشهورة التي تحمل نفس الاسم ليس حذاء عاديا. والمسيح في لوحات "جيوتو" ليس هو المسيح الحقيقي. و"شهرزاد" عند "توفيق الحكيم" ليست "شهرزاد الحقيقية إن كان لها بالفعل وجود حقيقي، كما أنها ليست شهرزاد ألف ليلة، "وميرسول" الغريب عند "كامي" لا يمثل صورة تسجيلية لقاتل حقيقي. إنها جميعا أشخاص وصور وأشكال، وخبرات أعيد تشكيلها من جديد، من خلال ارتباطها بالحياة العاطفية والرمزية للفنان، ورؤيته لواقعه، أو لجانب من هذا الواقع.

   هكذا يمكن إذا أن نجد الصورة التي يحملها كل منا عن العبقري أو المبدع المفكر تختلف وتتنوع، بحيث قد لا يلتفت صاحب وجهة نظر معينة إلى وجهات النظر الأخرى. فكيف إذا يواجه عالم النفس هذا التنوع؟ هل يعتنق فكرة دون الأخرى يتبناها في نظرته لأعمال الإبداع الفني والعلمي؟ أم أن له طريقا آخر؟

   الحقيقة أن موقف عالم النفس يختلف فيما أوضحنا عن غيره منهجيا، فهو يقوم بتحليل العملية الإبداعية بالإطلاع على وجهات النظر المختلفة. وبمقتضى هذا التحليل، وبمقتضى المسلمات المنهجية استطاع علماء النفس أن ينظروا إلى الإبداع بصفته عملية تشير إلى وجود مجموعة معينة من السمات أو القدرات، أو العوامل التي يظهر تأثيرها في سلوك الشخص المبدع، ويسمى الشخص مبدعا إذا ما ظهرت لديه تلك السمات أو بعضها بدرجة شديدة. وبالطبع فقد يشتهر عالم أو أديب بقدرة معينة دون قدرة أخرى، إذ ليس بالضرورة أن تتوافر جميع هذه العوامل في عمل واحد، أو شخص واحد. فمنهم من تزداد قدرته على الإحساس بالمشكلات والثغرات، دون اكتراث بما يتطلبه ذلك من محاولة لعلاج تلك المشكلات واستكشاف الحلول الملائمة لحلها.

   وعلى الرغم من أن تحليل عالم النفس للعملية الإبداعية، يبدأ عادة من إطار أو تصور نظري، فإنه لا يعتمد بكامله على التحليلات النظرية والحدس. إنه يتجه عادة إلى صياغة أفكاره في شكل فروض محددة تصلح في نظره للإلمام بالجوانب المختلفة للعملية الإبداعية، أي أنه يتجه لحصر العوامل والسمات المختلفة، التي يمكن أن نلم بمقتضاها بالجوانب المتنوعة للعملية الإبداعية في شكلها المتكامل.

   وتأتى بعد مرحلة فرض الفروض مرحلة أخرى، يقوم بها العالم الذي صاغ هذه الفروض، أو عالم آخر يعكف على هذه التصورات ويحاول أن يترجمها إلى لغة عملية واقعية. لنفرض مثلا أننا بدأنا بالتصور الذي يتبناه البعض للعملية الإبداعية بصفتها مظهرا من مظاهر التعبير عن السيولة والخصوبة الفكرية. فمثل هذا الفرض يجب أن يتحول بمقتضى اللغة العملية إلى مجموعة من العناصر التي يمكن ملاحظتها وتقديرها، أي يجب أن يجتهد العالم أو الباحث السيكولوجي في شحذ خياله لكي يجمع العناصر المختلفة النوعية، التي تعبر عن السيولة والخصوبة الفكرية. فقد يرى مثلا بأنها تعنى:

   (1) الإشارة إلى كمية الأفكار التي تطرأ على الذهن عند إثارة موضوع أو مشكلة معينة في وحدة زمنية محددة.

   (2) أو قد تعبر في رأيه عن سهولة توليد الأفكار، وسرعة التفكير أو سرعة التصنيف، بإعطاء كلمات في نسق محدد، أو وفق نظام معلوم. ألفاظ أو أفعال أو تشبيهات أو استعارات أو صور.

   ومن الترجمة العملية للفروض يسهل بعد ذلك وضع مقياس أو عدة مقاييس لتقدير هذه الخصائص في الأفراد. ومن ثم يسهل علينا بعد ذلك أن نقدر الفروق الفردية والاختلافات الشخصية في الخاصية التي وضعنا المقياس من أجلها.

   وتأتي بعد مرحلة وضع المقاييس، مرحلة تطبيق هذه المقاييس على عينات من الأفراد تنتقى بطريقة ما بحيث تكون ممثلة للمجتمع الكبير. ونعالج بعد ذلك إجاباتهم بطرق موضوعية للوصول إلى العوامل المختلفة التي يمكن من خلالها فهم الظاهرة الإبداعية وما تشتمل عليه من قدرات.

   والحقيقة أن علم النفس استطاع فيما لا يزيد عن ربع قرن أن يكشف الكثير عن تحليل الإبداع وفهمه، فقد أمكن بفضله اكتشاف أن هناك عوامل أساسية مستقلة للقدرة الإبداعية، دونها لا نستطيع أن نتحدث عن وجود إبداع (انظر المرجعين: 49، 50 في نهاية الكتاب.) من هذه العوامل: الطلاقة، والمرونة الذهنية، والأصالة، والحساسية للمشكلات، والقدرة على المثابرة. ويحتاج القارئ هنا إلى كلمة عن كل من هذه المفاهيم، ليرى صلتها بما يعرف أو لا يعرف عن الإبداع.

 

§         الطلاقة والخصوبة

    ويقصد بالطلاقة أو ما يسمى بالإنجليزية Fluency، القدرة على إنتاج أكبر عدد من الأفكار الإبداعية. فالشخص المبدع شخص متفوق من حيث كمية الأفكار التي يقترحها عن موضوع معين في وحدة زمنية ثابتة بالمقارنة بغيره؟ أي إنه على درجة مرتفعة من القدرة على سيولة الأفكار، وسهولة توليدها، وتتوافر هذه القدرة في بعض الأشخاص بقدر مرتفع. مثال ذلك ما يذكره "كليمنت آتلى" عن "ونستون تشرشل" أنه كان يستطيع أن يقدم على الأقل عشر أفكار لأي مشكلة. كذلك يذكر نقاد الأدب أن "شكسبير" كان يمتاز بقدر مرتفع من هذه القدرة؟ فليس ثمة مسرحية فيها ذكر للحيوانات والجوارح كما في "الملك لير"، فقد ملأ "شكسبير" مسرحيته تلك بكثير من رموز الرعب. فهو يذكر أربعة وستين حيوانا مختلفا 133 مرة، كما أن معرفته في تلك المسرحية بالنباتات وأسمائها تكاد تكون مذهلة.

   وتتخذ مقاييس القدرة على الطلاقة أشكالا عدة منها مثلا: سرعة التفكير بإعطاء كلمات في نسق محدد، تبدأ مثلا بحرف معين أو مقطع، أو تنتهي بحرف معين أو مقطع، ومنها التصنيف السريع للكلمات في فئات خاصة، أو تصنيف الأفكار حسب متطلبات معينة، مثلا القدرة على ذكر أكبر عدد من أسماء الجمع، أو أسماء الحيوانات، أو الأشياء الصلبة، أو البيضاء، أو أكبر قدر من الاستعمالات لقالب الطوب، أو علبة، أو أكبر قدر من العناوين لقصة.. الخ. ومنها القدرة على إعطاء كلمات ترتبط بكلمة معينة كذكر أكبر عدد من التداعيات لكلمة كلب، أو ليل، أو حرب.. الخ، ومنها القدرة على وضع الكلمات في أكبر قدر ممكن من الجمل والعبارات ذات المعنى... وهكذا.

 

§         المرونة الذهنية والقدرة على التنوع

   ويقصد بها الإشارة إلى القدرة على تغيير الحالة الذهنية بتغير الموقف؟ أي إن المرونة هنا تعتبر عكس ما يسمى بالتصلب العقلي الذي يتجه الشخص بمقتضاه إلى تبني ألفاظ فكرية محددة يواجه بها مواقف الحياة مهما تنوعت واختلفت. ومن المطلوب بالطبع أن يكون الشخص المبدع على درجة مرتفعة من المرونة، والتلون العقلي، حتى يكون الشخص قادرا على تغيير حالته العقلية لكي تتناسب مع تعقد الموقف الإبداعي. ولا شك أن جزءا كبيرا من أمراض العملية الإبداعية في مجال الفنون في مجتمعاتنا العربية قد يكمن في انخفاض هذه القدرة لدى كثير من فنانينا. ففي مجال الغناء نجد للأسف بعض الفنانين يميلون إلى تبني لون واحد من الغناء، وفى الموسيقى يتبنون شكلا واحدا من الإيقاع، وفى الرسم.. وفى القصة وغير ذلك. ومن شأن هذا التبني لأسلوب واحد تقليدي أن يقضى على كثير من مظاهر التنوع والثراء الإبداعي.

   ويتخذ التعبير عن المرونة مظهرين: أولهما قدرة الشخص على أن يعطى تلقائيا عددا متنوعا من الاستجابات لا تنتمي إلى فئة، أو مظهر واحد وإنما تنتمي إلى عدد متنوع، أي الإبداع في أكثر من إطار أو شكل. ويسمى هذا النوع منه: المرونة التلقائية، وهي التي يمكن تحديدها لدى الفنانين والأدباء الذين ينجحون في إعطاء منتجات إبداعية متنوعة، ولا تنتمي لإطار واحد.

   أما الشكل الآخر من المرونة فيتعلق بالسلوك الناجح لمواجهة موقف أو مشكلة معينة، فإذا لم يظهر هذا السلوك يفشل الشخص في حل المشكلة أو مواجهة الموقف. ويسمى هذا النوع من المرونة باسم المرونة التكيفية؟ لأنها تحتاج لتعديل مقصود في السلوك ليتفق مع الحل السليم. فإذا علقنا خيطين في طرفي الحجرة بحيث يكون كل منهما بعيدا عن الآخر، وطلبنا من مجموعة من الأشخاص كل منهم على حدة أن يقف في وسط الحجرة، وأن يحاول أن يجد حلا يستطيع أن يساعده على الإمساك بالخيطين في وقت واحد، فإن الشخص المرن سيستطيع أن يسلك سلوكا ناجحا، يمكنه من مواجهة هذه المشكلة فيقترح مثلا القيام بأرجحة أحد الخيطين عند تناول الخيط الآخر. أما الشخص غير المرن عقليا فإنه قد لا يستطيع أن يجد حلا لتلك المشكلة، لأنه قد لا  يتمكن من أن يواجه الموقف بحل عقلي مناسب. قس على هذا كافة المشكلات التي تواجهنا وتحتاج منا لحلول مرنة من هذا النوع.

 

§         الحساسية للمشكلات والوعي بنواحي القصور

   الشخص المبدع يستطيع رؤية الكثير من المشكلات في الموقف الواحد. فهو يعي الأخطاء، ونواحي النقص والقصور، ويحس بالمشكلات إحساسا مرهفا Sensitivity to problems.

   ولا شك أن الأشخاص الذين تزداد حساسيتهم لإدراك أوجه القصور، والمشكلات في المواقف العقلية والاجتماعية تزداد فرصتهم لخوض غمار البحث والتأليف فيها؟ فإذا قاموا بذلك فإن الاحتمال سيزداد أمامهم نحو الإبداع الخلاق. وتبين دراسات العلماء والأدباء، والفنانين أنهم بالفعل من ذوى الإحساس المرهف في إدراك ا!تغيرات، ونواحي القصور، وبداية من هذا الإحساس تنطلق إمكانياتهم نحو سد الثغرات، أو فهم الغموض المحيط، إما برواية، أو نظرية علمية، أو بقصة...الخ.

   ويتحدث بعض العلماء عن هذه القدرة بمصطلحات أخرى كارتفاع الوعي ويقول Kneller في هذا المعنى أن الشخص المبدع أكثر حساسية لبيئته على المعتاد؟ فهو يرقب الأشياء التي لا يرقبها غيره في الصحف اليومية، وبعض الثغرات في الأفكار الشائعة وغيرها، وهو بهذا المعنى أكثر تفتحا على بيئته. ويقوم من خلال مجهوداته الإبداعية بعد ذلك- بدافع من تلك الأشياء- إلى فهمها، ووضعها في إطار آخر (المرجع 56).

 

§         الأصالة والابتكار

   الشخص المبدع ذو تفكير على درجة عالية من الأصالة Originality، أي أنه لا يكرر أفكار المحيطين به، فتكون الأفكار التي يولدها جديدة إذا ما حكمنا عليها في ضوء الأفكار التي تبرز عند الأشخاص الآخرين: ويمكن الحكم !حلى الفكرة بالأصالة إذا كانت متميزة، ولا تكرر الأفكار الشائعة. والشخص صاحب التفكير الأصيل بهذا المعنى هو الشخص الذي يننر من تكرار أفكار الآخرين، وحلولهم التقليدية للمشكلات.

   لهذا نظرنا إلى الأدلة في ضوء عوامل الطلاقة والمرونة كـالحساسية للمشكلات، نجد أنها تختلف عن كل منها فهي:

(1) لا تشير إلى كمية الأفكار الإبداعية التي يعطيها الشخص، بل تعتمد على قيمة تلك الأفكار، ونوعيتها، وجدتها، وهذا ما يميزها عن الطلاقة.

(2) ولا تشير إلى نفور الشخص من تكرار تصوراته، أو أفكاره هو شخصيا، كما في المرونة، بل تشير إلى النفور من تكرار ما يفعله الآخرون، وهذا ما يميزها عن المرونة.

(3) وهى لا تتضمن شروطا تقويمية في النظر إلى البيئة، كما لا  تحتاج إلى قدر كبير من الشروط التقويمية المطلوبة لنقد الذات،حتى يستطيع المفكر المبدع أن ينهي عمله على خير وجه، وهذا ما يميزها عن الحساسية للمشكلات، التي تحتاج لقدر مرتفع من التقويم سواء في تقويم البيئة أو الذات.

   لكن علينا أن لا نبالغ في تصور دور الأصالة في عملية الإبداع، فما هي إلا عنصر من عناصر العملية الإبداعية الكلية.. وتتفاوت أهميتها بتفاوت ميادين البحث والتأليف. ففي مجال الأدب والفن تزداد أهميتها.. بل إنه يمكن القول بأن أهميتها في هذا المجال تفوق أهمية غيرها من العوامل.. أما في مجال البحث العلمي والرياضيات فإن وزنها يتضاءل كثيرا، صحيح أن القدرة على إعطاء أفكار جديدة تكون ضرورية لأي باحث علمي، غير أن وزن هذه القدرة يكون أكبر ما يكون في البداية.. وربما في النهاية بعد تحصيل الوقائع والبيانات الملائمة.. وبين البداية والنهاية يوجد طريق شاق طويل، يحتاج لعدد كبير من القدرات تفوق في أهميتها وزن عامل الأصالة. ومن ناحية أخرى يتنبه "بيفردج" إلى أن تقدم المعرفة العلمية لا يتم بفضل القدرة على الابتكار الخلاق والأصالة فحسب، بل إنه يتم بفضل جهد فريق آخر من العلماء النظاميين Systematic الذين يقيمون معرفتهم بخطوات متدرجة، ومنظمة. وهؤلاء قد تبنى شهرتهم أساسا على مثابرتهم، وإصرارهم ومتابعتهم للجهود السابقة والامتداد بها، وهى قدرات تختلف عما في الأصالة، ولا تقل أهمية من حيث قيمتها في نيا الإبداع.

   وحتى في بعض مجالات الفن لا نحتاج الأصالة بقدر ما نحتاج إلى قدرات أخرى.. ففي مجال التمثيل لا يرتبط نجاح الممثل العبقري بالقدرة على الأصالة بقدر ما يرتبط بقدرته على تكوين اتجاه يلائم الشخصية المتخيلة. وقد تنبه "ستانيسلافسكى" المخرج المسرحي الروسي المعروف إلى ذلك، عندما قدم هذه النصيحة إلى الشباب من الممثلين:

   " إنك يجب أن تضع نفسك في موقف شبيه لموقف الشخصية التي تصورها، وتضيف افتراضات جديدة إذا اقتضت الضرورة. حاول أن تتذكر حالتك عندما تكون أنت في موقف مماثل حتى إذا لم يكن قد مر بك موقف كهذا من قبل. فيجب أن تصطنع موقفا خياليا، وأن تحس بنفسك في الدور، وأن تحس بالدور في نفسك (عن: 41) ".

   وقد أثبت العالم السيكولوجي الروسي "ناتادزى" هذه الحقيقة تجريبيا فبين أن ما يميز الممثل الناجح عن الممثل غير الناجح هي قدرة الأول على الاندماج الجيد في الدور بسبب القدرة على تكوين إطار عقلي، يمكن من خلاله صياغة السلوك بحيث يكون مطابقا للسلوك المتخيل (أي سلوك الشخصية التي يقوم الممثل بتمثيلها).

   وبالطبع فإن هذه الاستثناءات لا يجب أن يفهم منها التقليل من شأن عامل الأصالة في الإبداع.. ولعل من الأفضل أن نتصور أن الأصالة قد تأخذ أشكالا مختلفة باختلاف ميادين التخصص، أو أنها تحتاج بجوارها لقدرات أخرى يفرضها هذا المجال أو ذاك.

 

§         التركيز لفترات طويلة

    الشخص المبدع- كما أشرنا من قبل- يمتاز بطريقة خاصة في إطلاق طاقاته تتمثل في قدرته على التركيز لفترات طويلة في مجال اهتمامه. والمبدع بعبارة أخرى يجب أن يكون ذا قدرة على التركيز المصحوب بالانتباه طويل الأمد على هدف معين، على الرغم من المشتتات والمعوقات التي تثيرها المواقف الخارجية، أو التي تحدث نتيجة للتغير في مضمون الهدف. وتظهر هذه القدرة في إمكانية الشخص وقدرته على متابعة هدف معين وتخطي أي مشتتات، والالتفاف حولها، بأسلوب يتسم بالمرونة. ويعود الفضل لعدد من البحوث المصرية في إبراز قيمة هذه القدرة وتحليلها وقياسها (عن: 15).

   ومن المعتقد أن التركيز والقدرة على مواصلة الاتجاه تعتبر من القدرات الأساسية التي تساهم في تشكيل أداء المبدع لعمله، خاصة في مجالات الإبداع العلمي أو الفني التي تحتاج لامتداد زماني طويل للانتهاء منها. وعلى سبيل المثال يذكر "فيرتهيمر" عن "أينشتاين" أنه ظل معنيا بمشكلته العلمية الرئيسية لمدة سبع سنوات. ويذكر "هايمان" عن "بافلوف" أن أفكاره الأساسية في الفعل المنعكس الشرطي ترجع جذورها عندما كان بافلوف في العام الخامس عشر. ففي هذه الفترة تأثر "بافلوف" بكتاب عام في الفسيولوجيا، وضعه "جورج هنري لوشى" بعنوان "الفسيولوجيا في حياتنا اليومية". ومن بين الخصائص العامة التي لفتت نظره في هذا الكتاب رسم الجهاز الهضمي، المأخوذ عن الطبيب الفرنسي ذائع الصيت "كلود برنار". يقول " بافلوف" أنه بدأ منذ تلك اللحظة يجول بأفكاره وتأملاته في هذا الجهاز المعقد ونظام عمله. وقاده الاهتمام بالجهاز الهضمي تدريجيا إلى بحوثه في عملية الهضم التي نال عليها في 1904 جائزة نوبل. وقد أدت هذه البحوث بدورها إلى اهتمامه المباشر بالفعل المنعكس الشرطي.. وتجاربه في هذا المجال شغلت الجزء الباقي من حياته بعد ذلك.

   غير أن قدرة المبدع على مواصلة الاتجاه لا تكون بشكل متصلب، فالمبدع أثناء مواصلته لتحقيق اتجاهاته يعدل ويبدل من أفكاره لكي يحقق أهدافه الإبداعية بأفضل صورة ممكنة. لكنه في كل الأحوال لا يتنازل عن هدفه، ويظل محتفظا لنفسه بالمرونة المناسبة التي تتيح له اكتشاف السبل الهادية ومعاينتها.

   وفى الرواية تزداد أهمية القدرة على مواصلة الاتجاه، فبفضلها يحمي الفنان نفسه من التشتت، وتتاح له العودة بين كل فينة وأخرى لاستكمال العمد باليقظة الذهنية نفسها والحماس الوجداني نفسه، بل إنه من المتعذر على الروائي أن ينمي أفكاره، ويمتحن صلاحيتها دون توافر درجة مرتفعة من هذه القدرة. ولهذا تجد الأدباء وكتاب الروايات الطويلة يعبرون عن استمتاعهم بالمعايشة الفكرية لأعمالهم. ولا يستطيعون عملهم الروائي وما يشتمل عليه من شخصيـات عن أذهانهم أو خيالهم حتى حينما يكونون في غير مواقف الكتابة.

   وتتخذ مواصلة الاتجاه لدى الروائي كما بين بحث أجري على مجموعة من الروائيين المصريين (مرجع: 15 )، أشكالا مختلفة تساعد الأديب أو الكاتب أن يحافظ على وجود لغة خاصة ومتسقة لكل شخصية. وعليه أن يجاهد نفسه على خلق روابط منطقية بين أفكار القصة، وأن يكون لكل فكرة دور وظيفي له معناه. ولا شك أن هذا الجانب يعتبر من أهم الجوانب المميزة للأعمال الروائية الممتازة.، فالعمل الروائي الجيد الذي يستطيع صاحبه أن يحتفظ لنفسه فيه بنسق منطقي محدد ذي نبرة وجدانية متسقة.

   ولهذا نجد أن من المطلوب أن يحتفظ المبدع بقدر من الطاقة البدنية والنفسية تساعده على الاستمرار في عمله. وعلى سبيل المثال يذكر "جورج سيمنون" أنه يبدأ قبل كتابة أي عمل طويل في استدعاء الطبيب للتأكد من عدم توقع منغصات لمدة 11 يوما على الأقل. فيقيس الضغط، ويفحص أعضاءه ثم يوافق بعد ذلك على البدء في العمل (عن: 15).

   ويبدو أن القدرة على المحافظة على الاتجاه ضرورية أيضا في مجال البحث العلمي، لكن يجب فصلها عما يسميه بيفردج "اعتياد العمل في الموضوع نفسه لفترة طويلة" فالاعتياد بالطريقة التي يذكرها يلعب دورا محبطا لإبداع العلمي. ولهذا نجد "بيفردج" يستدرك ذلك فيرى أن من الواجب على العالم إذا أراد أن يقوم بأبحاث فعالة أن يكرس لها الجزء الأكبر من وقته، لأن البحث العلمي يتطلب صفاء ذهنيا، كما يتطلب مقدرة على مواصلة السير في طريق ممتد ومعرض للفشل. كما ذكر أن التفرغ للبحث تكون نتائجه الإيجابية أفضل بكثير من عدم التفرغ، ربما للأسباب نفسها التي أشرنا لها والمتعلقة بالقدرة على الصفاء الذهني والهدوء ومواصلة الاتجاه (بيفردج. فن البحث العلمي، ص 243. ترجمة زكريا فهمي، القاهرة: دار النهضة المصرية).

 

§         القدرة على تكوين ترابطات واكتشاف علاقات جديدة 

   إن القدرة على تكوين عناصر الخبرة وتشكيلها في بناء وترابط جديد يؤدي إلى فائدة عملية وشخصية في مجال الإبداع. ويتفاوت الناس في قدرتهم على تكوين ترابط جديد من عناصر معروفة للجميع، ولمقدار ارتفاع حظ الشخص من هذه القدرة، تزداد فرصته على الإبداع أو الأصالة.

   ويمكن تقدير الفروق الفردية بين الأشخاص في هذه الخاصية من خلال الأداء على عدد من المقاييس التي أثبتت صحتها، مثل مقاييس التداعي التي يطلب فيها من الأشخاص أن يقدموا تداعيات متكررة لمنبه واحد (مثلا طلب ذكر أكبر قدر من الكلمات أو التداعيات التي ترتبط بكلمة حب أو زهرة أو ليل.. الخ). ومنها مقاييس تقوم على تقديم عدد من المنبهات، أو الكلمات غير المترابطة ظاهريا، ويطلب من الأشخاص التأليف بينها تأليفا جديدا وملائما.

   وتبين نتائج البحوث في هذه القدرة أنه ليس من السهل توافرها، لأن هناك معوقات متعددة تعوق نموها وظهورها. ومن أهم تلك المعوقات ما يسمى باعتياد التفكير في إطار واحد. ويقصد به وجود نظام ثابت من التفكير لدى بعض الأشخاص، يدفعهم إلى الاحتفاظ بعناصر ثابتة وتقليدية في تفسير عالم الخبرة ورؤيته وإدراكه. فالكثيرون قد لا يستطيعون أن يتصوروا أن نفاية من الورق، أو قطعة من الزجاج المكسور قد تصلحان لعشرات الأغراض والمقاصد، وليس لمجرد إلقائها في سلة المهملات. إن الشخص الذي تكون عنده الأفكار مترابطة ترابطا وظيفيا بأشيائها في مجال تخصصه، قد يعجز عن أن يتحول بتلك الأفكار إلى عناصر جديدة بسبب وضعها في نظام ثابت من العادات الذهنية والعقلية؟ لهذا نجد أن الإبداع في كثير من مجالات التخصص يظهر على أيدي من لم يعملوا طويلا في الميدان، ولعل هذا يفسر السبب الذي يجعل الأشخاص المبدعين هم من بين صغار الشباب.

   وإذا كان كل فكر إبداعي إنما يقوم في حقيقته على خلق نظام جديد من العلاقات بين الأشياء بعضها والبعض الآخر، أو بربطها بعالم الخبرة الذاتية والوجدانية) كما هو الحال في الفن والأدب (فإننا نستطيع أن نفسر السبب في المقاومة العنيدة التي يواجهها المبدعون على مر التاريخ). فقد أثبت علماء السلوك الاجتماعي وجود مقاومة اجتماعية للأفكار الجديدة. وربما يسهل علينا الآن أن نفسر أسباب هذه المقاومة، ففي الحدود التي التزمت فيها البشرية بنظام ثابت من الأفكار، والعادات التقليدية الثابتة ينزعج الناس عند أي بادرة لإلغاء هذا النظام الثابت، ويقاومون مصادر هذه الانحرافات باستنكار أو بعنف شديد. لهذا فإن على المبدع أن يواجه في الحقيقة معضلتين وليس معضلة واحدة، فعليه أولا أن ينمي قدرته على تكوين ترابطات جديدة، محررا نفسه من الارتباط التقليدي الثابت بين الظواهر، كما أن عليه أيضا أن يواجه ردود الفعل المختلفة التي ستثيرها مكتشفاته، وأن يتفنن في التغلب على المقاومة الاجتماعية لآرائه.

 

§         الخلاصـة

   من السهل أن نلاحظ وجود اختلافات في الصورة التي يحملها الناس عن العبقري أو عن عمله. بعضهم يركز على كمية الإنتاج، وسيولة الأفكار، وبعضهم يركز على تنوع الأعمال والإنتاج، والبعض الثالث قد تثيره قيمة عمل واحد للمبدع بين طائفة من الأعمال الأخرى، وبعضهم قد تثيره قدرة المبدع على إدراك الثغرات، والحساسية المرهفة.. وهكذا.

   أما موقف عالم النفس من هذه الصور المختلفة فهو موقف منهجي، يقوم على استقصاء مختلف الآراء، وتحليلها، وقياسها ثم التوصل بعد ذلك، من خلال تحليلاته الموضوعية والكمية إلى العوامل الرئيسية التي تنظم العملية الإبداعية بتنوعاتها المختلفة، وقد أمكن بفضل هذا المنهج التثبت من وجود عوامل أساسية لفهم الإبداع وتفسيره، منها: الطلاقة أو السيولة، الحساسية للمشكلات، المرونة العقلية، الأصالة والجدة، والتركيز، ثم أخيرا القدرة على تكوين ترابطات أو إدراك علاقات جديدة.

   وعلى الرغم من أن كثيرا من تلك الأوجه تتعلق بميداني الإبداع في الفن والعلم، فإن هناك كثيرا من المجالات تحتاج لجهود خاصة لاستكشاف عواملها. فمثلا هل يكون وزن تلك العوامل في الأدب أو العلم كوزنها في مجال التمثيل المسرحي مثلا، وهل يمكن اكتشاف عوامل تساعد على الكفاءة الإبداعية في مجال التمثيل أو التصور المسرحي؟ إن الإجابة على أي حال بالإيجاب.. وتشير إلى أن الطريق لا يزال مفتوحا لكثير من الجهود. فما من مجال يحتاج إلى قدرات إبداعية لاستكشاف مجاهله كما يحتاج الإبداع ذاته.

الرجوع إلى الفهرس

 

Document Code PB.0045

http://www.arabpsynet.com/Books/Ibrahim.B6 

ترميز المستند   PB.0045

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)