Arabpsynet

Comunications   / حوارات /  Interviews

شبكة العلوم النفسية العربية

 

لقاء مع الدكتور نبيل علي

 حوار حول الفكر الثقافي العربي، التقانة و ثورة المعلومات

عرض و تقديم د. جمـال التـركـي

E.mail : turky.jamel@gnet.tn

 

q      مدخل

    عندما أصدر كتابه الأول "العرب و عصر المعلومات" كان كمن يطلق شعاع من نور في ظلام المعلوماتية الحالك في أوطاننا و برز اسم الدكتور نبيل علي كأبرز منظري المعلوماتية في العالم العربي. كان كتابه هذا تعرية للواقع المعلوماتي المزري في هذه الرقعة من العالم تحدث فيه عن الأبعاد الاجتماعية لتكنولوجيا المعلومات (اللغة العربية و المعلوماتية، التعليم العربي و المعلوماتية) داعيا إلى سياسة عربية في مجال المعلومات يكون فيها المدخل المعلوماتي منطلقا لتحقيق الاندماج العربي. كان هذا الكتاب نقلة نوعية في عرض الواقع و تحليله استشرافا لمستقبل لن يكون أفضل من واقعنا إن لم نتدارك وضعنا المزري و نلحق بثورة المعلوماتية الجارفة.

    كان هذا في أواسط التسعينيات (1994) و لم تمر 7 سنوات على كتابه الأول حتى فاجئنا بكتابه الثاني "الثقافة العربية و عصر المعلومات"  التي يعد بحق ثورة جريئة في تحليل الثقافة العربية و طرح الرؤى المستقبلية البديلة.

    انطلاقا من اهتماماتي بالمعلوماتية و تطبيقاتها في ميدان اختصاصي كنت آمل لقاءه و محاورته إلى أن أتيحت المناسبة في شتاء 2002 أثناء تواجدي بالقاهرة للمشاركة في فعاليات المؤتمر العربي العاشر للعلوم النفسية وفي الندوة العلمية لجمعية الطب النفسي التطوري حول موضوع المعلوماتية و تطبيقاتها في العلوم النفسية بدعوة من البروفسور يحيى الرخاوي و كان أن التقيته عفويا أول مرة دون معرفته و ذلك في أمسية ثقافية نضمها الأستاذ الرخاوي في فيلته على شرف صاحب جائزة نوبل الكاتب المصري نجيب محفوظ مع مجموعة من المثقفين المصريين. و عندما أعربت للأستاذ الرخاوي فيما بعد عن رغبتي للقائه ، أعلمني أنه كان من المشاركين في أمسية الجمعة و رتّب لقاء معه في مكتبه بمصر الجديدة. تم اللقاء الذي عزز الصورة الذهنية التي حملتها عنه و تطرق الحديث بنا عن هموم المعلوماتية و الثقافة العربية نواحي شتى، و كان لا بد من تدوين بعض الملاحظات تأسيسا لحوار معه و لكن انقضى الوقت دون أن أدون الأفكار التي تمت محاورته فيها، و تم تدارك الأمر بتلميح الدكتور نبيل بأن أهم الأفكار التي تمت مناقشتها معروضة بشكل مفصل في كتابه الأخير و رأيت من الأفضل أن أعرض لأهم آرائه و أفكاره في صورة حوار افتراضي انطلاقا من هذا الكتاب.

 

 

q      بداية ما هي أبرز مميزات هذا العصر و ملامحه؟

§             ليكن حديث النهاية. وليس ثمة تناقض في ذلك مع عصرنا هذا الذي نسعى هنا إلى تمثله، عصر يلهث فيه قادمه يكاد يلحق بسابقه، وتتهاوى فيه النظم والأفكار على مرأى من بدايتها، وتتقادم فيه الأشياء وهي في أوج جدتها  ، عصر تتآلف فيه الأشياء مع أضدادها. فالمعرفة قوة والقوة أيضا معرفة، معرفة تفرزها هذه القوة لخدمة أغراضها وتبرير ممارساتها وتمرير قراراتها. ولهذا التضاد المعرفي رفيق اقتصادي. فالمعلومات مال بعد أن أصبحت موردا تنمويا يفوق في أهميته الموارد المادية، والمال بدوره أوشك أن يكون مجرد معلومات، نبضات و إشارات وشفرات تتبادلها البنوك في معاملاتها المالية إلكترونيا. وثمة علاقة بين هذا التضاد المعرفي- المعلوماتي والتضاد. الحاكم في عصرنا، الذي أصبح فيه العلم هو ثقافة المستقبل، في حين اقتربت الثقافة من أن تصبح هي علم المستقبل الشامل، الذي يطوى في عباءته فروعا معرفية متعددة ومتباينة.

 

q      إنه عصر المعلومات و اختلاط الأضداد إذن؟

§             نعم ودعنا نستطرد في حديث الأضداد، فما أعجب أضداد عصرنا، ذلك الذي تتعلم فيه الأجيال اللاحقة من أجيالها السابقة، مثلما تتعلم السابقة من اللاحقة، بعد أن أصبحت معرفة من سبق تتهالك بمعدل يفوق في سرعته معدل اكتسابه لها. وثمة صلة ما بين هذا ومعكوس التاريخ لدى ميشيل فوكو، الذي يزعم أن الماضي لا يؤدي إلى الحاضر، والحاضر هو الذي يهب الماضي معناه وجدواه. لقد اختلطت الأضداد وتداخلت في أيامنا حتى أعلن جان بودليار "نهاية الأضداد"، نهاية تضاد الجميل والقبيح في الفن، واليسار واليمين في السياسة، والصادق والزائف في الإعلام، والموضوعي والذاتي في العلم، بل ونهاية تضاد "هنا وهناك " أيضا بعد أن كاد "طابع المكان " أن ينقرض وقد سلبته عمارة الحداثة خصوصيته وتميزه. إنها بالقطع، وبكل المقاييس، ثورة مجتمعية عارمة. لقد دان العالم لسيطرة الصغير متناهي الصغر، من جسيمات الذرة وجزيئات البيولوجيا الجزيئية ، والأخطر من ذلك أنه قد دان لسيطرة "ذرة" المنطق الصوري التي بلغت ذروتها في ثنائية "الصفر والواحد"، الثنائية الحاكمة التي قامت عليها تلك التكنولوجيا الساحقة الماحقة: تكنولوجيا المعلومات. حقا... نحن نواجه عالما زاخرا بالمتناقضات، يتوازى فيه تكتل دوله مع تفتيت دويلاته، ولا يفوق نموه الاقتصادي إلا زيادة عدد فقرائه. و ها هي شبكة الإنترنت، التي أقيمت أصلا لاتقاء ضربة نووية محتملة ربما يقدم عليها الخصم السوفييتي آنذاك، هاهي تلك الشبكة، وليدة الحرب الباردة، يرجون لها كأداة مثلى لإشاعة ثقافة السلام، و نشر الوفاق و الوئام بين الأنام. إنها البشرية تمارس هوايتها الأبدية في مزج الآمال بالأوهام، فلا حرج ولا تناقض بين حديث السلام هذا، والمائة والخمسين حربا التي نشبت منذ الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي يبدو وكأن كبار عالمنا يصدرون لصغاره حروبهم وصراعاتهم وأزماتهم، يفتتونها حروبا أهلية، وصراعات عرقية ودينية ولغوية، وبطالة وتغريبا وتهميشا واستبعادا، وكل درجات هذا الطيف القاتم لاستغلال أيامنا. وربما تساير نزعة تفتيت الكوارث تلك نزعة اللامركزية التي تسود هذا العصر، وتتبدى- أكثر ما تتبدى- في شبكة الإنترنت، شبكة بلا محور وبلا قمة وبلا هرمية أو تراتبية.

 

q      هل لنا أن نتساءل عن العقلانية في زمن صار فيه من تعرف أهم من ماذا تعرف، ومازال كثيرون فيه أسرى الفكر الثنائي القاطع: إما هذا، وإما ذاك، في الوقت نفسه الذي يسعى فيه عقل الكمبيوتر الآلي إلى التخلص من هذه الصرامة الثنائية.

§             لقد حق للإنسان بعد كل هذا أن يرتد ليجتر عقله الأول، عقل أسطورته، عساه يجد في لاعقلانيتها ما يعينه على فهم لغز حداثته، وما بعد حداثته. لقد صنع إنسان هذا العصر عالما يغص بالاحتمالات والتوقعات واللايقين، إلى الدرجة التي أصبح معها يخشى النجاح، قدر ما يخشى الفشل، بل يصل الأمر أحيانا إلى حد تفضيل الفشل. فنجاح العولمة- على سبيل المثال- في رأي البعض هو الشيء الوحيد الأكثر سوءا من فشلها.  لقد استدرج التعقد إنسان هذا العصر إلى شباكه حتى كاد يتجاوز قدراته على الحل. فعلى الرغم من كل ما يزهو به عصرنا من ثراء معرفته و وفرة معلوماته، و قدرة نظمه و آلاته و دينامية تنظيماته و سرعة قراراته، برغم كل هذا، مازال يستبيح لنفسه أن يسلم أقداره لعبث الأيدي الخفية التي تحرك اقتصاده وعولمته، ومعظم نظمه الاجتماعية، و أمور بيئته وأوضاع جماعاته. وصدق من قال: كم نحن جوعى للحكمة و المعرفة، و نحن غرقى في بحور المعلومات و البيانات!

 

q      أي صورة يمكن أن نرسمها لهذا المشهد الحضاري؟

§             إن صورة هذا المشهد الحضاري نشكلها من نبضات الرموز وشظايا النصوص، وقد تراءى لنا ذلك صدى لتشظي رسائل المعلومات،fragmentation ، تلك الرسائل التي تتدفق كفيض منهمر من وميض النبضات، يبعث به المرسل لمستقبله. و نبعث بشظايا ثلاثية: النهايات والمابعديات ومنفيات "بلا"

-        نهاية المكان/مصانع بلا عمال/ما بعد الصناعة - نهاية المسافة/تعليم بلا معلمين/ما بعد الحداثة - نهاية التاريخ/أفلام بلا ممثلين/ما بعد الفورية - نهاية الجغرافيا/برمجة بلا مبرمجين/ما بعد التيلورية - نهاية الدولة/مركبات بلا سائقين/ما بعد الكينزية - نهاية القومية/مدرسة بلا أسوار/ما بعد الكولونيالية - نهاية المدينة/مجتمع بلا نقد/ما بعد السياسة - نهاية المدرسة/أقلام بلا أحبار/ما بعد الكتابة - نهاية المدرس/هواتف بلا أرقام/ما بعد الرمز - نهاية الكتاب/كتاب بلا أقلام/ما بعد البترول - نهاية المؤلف/مكاتب بلا جدران/ما بعد الإنسانية - نهاية الورق/مكتبات بلا رفوف/ما بعد عصر المعلومات

    وعليك تقع مسؤولية استخلاص ملامح هذا العالم المغاير من هذه الفسيفساء الرمزية. ومعظم بنود هذا الجدول، إما معروف وإما مفهوم من سياقه. ولا أود أن أعتذر عما غمض منها، فإني أرى في هذا القدر من الغموض اتساقا مع طابع معرفة عصر المعلومات التي تنأى بنفسها عن بداهة الوضوح وسذاجة الاكتمال.

 

q      في خضم هذا التحد الجسيم الذي ينتظرنا،ما هي جوانب الحياة التي شملها هذا التحد؟

§             قد شملت التحديات معظم جوانب حياتنا، تحديات علمية وتكنولوجية واقتصادية، وهي تظل برغم حدتها وقسوتها دون تلك التي نواجهها على جبهتي السياسة والثقافة. وكما خلص الكثيرون، فإننا نواجه معضلة صنعتها أيدينا أكثر مما ساهمت فيها أقدارنا. وقد ألفنا عشرة تلك المعضلة لطول إقامتها بيننا، وسئمنا معرفة أسبابها، وعزفنا عن التبصر في آثارها. و إن استمر الوضع على ما هو عليه، فليس أقل من الكارثة، وما أدراك ما الكارثة !!

 

q      في مواجهة هذه المعضلات يجوز لنا أن نلوذ بالأسئلة التالية : ماذا ولماذا وكيف؟

§             لا خلاف في أن أكثر هذه الأسئلة بريقا هو سؤال: ماذا؟ ذلك الذي يستدعي الشواهد البارزة والأمور السافرة والأحداث الجارية، وقد فرعناه في إطار حديثنا الراهن إلى ثلاثة أسئلة فرعية هي: - ماذا يجري من حولنا؟ ( تضاريس المشهد العالمي للوضع الثقافي- المعلوماتي) - ماذا جرى لنا؟ (المشهد العربي إزاء المتغير الثقافي- المعلوماتي) - ماذا سيجري بنا؟ (التوقعات المستقبلية).

    وأكثر هذه الأسئلة صدأ في حالتنا هو سؤال: لماذا؟ فقد فاض بنا الكيل من نوبات التشخيص والتبرير.   وليكن كل منا خصيم نفسه ليدرك كم أهدرنا من مواردنا وأفكارنا وتراثنا. ويشهد تاريخنا البعيد والقريب أننا لم نأل جهدا في عقل العقول، واعتقال أصحابها، وتصفية أجساد حامليها، من  طرفة بن العبد، و ابن المقفع و بشار بن برد، و غيرهم كثيرون، و كأن "فوق رؤوسنا سيوف أقويائنا و قد تكاثفت تظللنا كليل حالك تهاوى فيه كواكب مفكرينا فأصبحت ظلمته أكثر حلكة".

أما أكثر الأسئلة عتمة، فهو سؤال: كيف؟ كيف لنا أن نواجه مجهول ثقافة عصر المعلومات؟ وليكن واضحا من البداية أننا لسنا بصدد وصفة ناجعة ناجزة تبرئنا من إرث الماضي وتلبي لنا توقعات المستقبل. و إني لا أعطي حلولا بقدر ما هو دعوة للتفكير في بدائل الحلول. واقتراح الحلول في حالتنا، بجانب كونه ضربا من المجازفة إلى حد السذاجة، فهو- أيضا- بمنزلة تناقض صريح الطبيعية السائلة لهذه الظاهرة الاجتماعية غير المسبوقة التي نحن بصددها. ولن تدين لنا الحلول إلا من خلال التفاعل بين فئات عقولنا على اختلاف مذاهبهم وأعمارهم ودوافعهم من جانب، وبين هذه العقول وحقائق واقعنا من جانب آخر. وهذا- بدوره- رهن بقدرة نخبتنا الثقافية على أن تفلت من قبضة ثلاثية: البيروقراط والتكنوقراط والثيوقراط.

    و لينج بنفسه من يستطيع، و لا عاصم اليوم من إعصار المعلومات إلا بأن نلهث لنلحق بالمركبة، فقد صار شعار هذا العصر : فلتلحق أم انبطح أرضا ليدهمك الركب المنطلق. خلاصة المقال : لحاقا أو انسحاقا.

 

q      إننا ما زلنا نرى حكاما و مفكرين و مثقفين عرب يتصرفون مع تجاهل متغيرات هذا العصر المتميز بشفافية المعلومات فهل يجدي دفن الرؤوس في الرمال؟.

§             إني أومن أن زهور التفاؤل تنبت عادة في شقوق الوقائع  ولنستهل حديث كثيرون "ماذا جرى لنا؟ " بقول عام، تؤكده شواهد عديدة، مؤداه: أن أداءنا أدنى بكثير من قدراتنا، و ما حققناه أقل بكثير مما أنفقناه، وحماس الأغلبية العربية لإحداث التغيير لا يحتاج إلى دليل، فما من لقاء عربي، إقليمي أو شبه إقليمي أو قطري، إلا و ترتفع الأصوات بالتغييرات الجذرية و إشاعة الديمقراطية و التصدي للبيروقراطية و ما غير ذلك. و السؤال المحير هنا كيف يتسرب كل هذا الحماس، ويتبدد كل هذا الجهد في السراديب المظلمة ؟ و عسى لظلمتها أن تنقشع، تحت الأضواء الكاشفة لتكنولوجيا المعلومات.

 

q      ماذا جرى لنا في وسط هذه الموجة من التكتلات العالمية والإقليمية السياسية والاقتصادية والإعلامية والتكنولوجية، لنعجز عن الوصول إلى صيغة الحد الأدنى لتكتل عربي بل كمقوم أساسي لإحداث التنمية ومواجهة تحديات العولمة؟

§             لا يتحرج البعض عندما يصرح بأننا في حاجة إلى "عوربة" لا "عولمة"، ونحن نتفهم دوافعهم، إلا أننا لا نرى "عوربة دون عولمة" أو "عولمة دون عوربة".

إنني أتساءل كيف فشلنا إلى الآن في إقامة نوع من الحوار الاجتماعي بين حكوماتنا وشعوبها؟ وهل لنا بناء على ذلك أن نصدق ما يتردد على ألسنة البعض من أن حكوماتنا قد باتت في عصر العولمة أصغر من مواجهة ضغوط الخارج، وأكبر من التعامل مع مشكلات الداخل.

    لماذا ينضب فكرنا على هذا النحو في معظم مجالات الثقافة : فكر اللغة،  و فكر الإعلام، و فكر التربية، و فكر الإبداع؟ ولماذا فشلت مجتمعاتنا في أن تصنع فلاسفة كبارا يقيمون لنا صروحا فكرية شاملة، أو حتى فلاسفة صغارا ينظرون لنا بعض جوانب الخاص العربي؟ و هل تكفي تلك المبادرات الفردية الجسورة على يد الناحتين في الصخر، من أمثال عابد الجابري وأمين العالم وحسن حنفي وبرهان غليون ومحمد أركون وتركي الحمد و جورج طرابيشي و أمثالهم؟

    و كيف نجد من بيننا من لا يزال يرى حقوق الإنسان و الديمقراطية أمرا غريبا لا شأن لنا به؟ في حين يسعى العالم حاليا إلى توسيع مفهوم الديمقراطية، و تأصيله بما يتفق و مطالب عصر المعلومات و وسائله، و ترتفع رايات الديمقراطية في أفريقيا و جنوب شرق آسيا و أوروبا الشرقية في حين نرضى نحن بديمقراطية الحد الأدنى أو ديموقراطية المبكرة، فهل لنا أن نزج بأنفسنا في حشد جموعها المتأخرة، و أن ندرك أن هناك تناقضا جوهريا بين غياب الديمقراطية، و وفرة المعلومات، وهو ما يمثل تهديدا حقيقيا لاستقرار النظم، و لتكن لنا عبرة من انهيار الاتحاد السوفييتي.

    وما هذا الذي يفوق مؤسساتنا الإعلامية عن أن تدرك هي الأخرى مغزى تكتلات الإعلام العالمية فلم نر حتى الآن اندماجا ولا حتى تعاونا، ومصدر قلقنا هو أن تتحول مؤسساتنا الإعلامية تدريجيا- بشكل مباشر أو غير مباشر- إلى وكلاء لمؤسسات هذه التكتلات. ألم يحن الوقت بعد لنؤمن بأن نهضة الإعلام ليست فقط في إقامة القنوات الفضائية، و إطلاق الأقمار الصناعية، واستيراد أحدث المطابع الصحافية؟ فالأهم من ذلك هو القدرة على إنتاج رسالة إعلامية مبتكرة ونافذة. فلا يخفى على أحد أن صحفنا عالة على وكالات الأنباء العالمية، وأن استيراد البرامج التليفزيونية هو الوسيلة الوحيدة لملء ساعات الإرسال لدينا، وأن معظم إذاعاتنا الموجهة تبث ولا تستقبل.

 

q      كيف السبيل لدخول المجتمعات العربية عصر المعلومات؟

§             إن نجاح المجتمعات العربية في دخول عصر المعلومات يتوقف – بالدرجة الأولى – على نجاحها في إعادة تشكيل العلاقة بين السياسة و منظومتي الثقافة و المعلومات، و مدى الدور الذي يمكن أن تلعبه تكنولوجيا المعلومات في إشاعة الديمقراطية و ترسيخها وتنميتها،و ترشيد العلاقة بين الحكام و المواطنين.

    فنحن في حاجة إلى مؤسسات ثقافية تتسم بالدينامية، و سرعة التكيف و اتخاذ القرار، ماهرة في استخدام   الوسائل الحديثة لتكنولوجيا المعلومات و الاتصالات و نقل الغايات و المخططات إلى واقع عملي ملموس، يمكن رصده و قياسه وتصويبه و تقويمه كميا، و تحديد عائده المباشر و غير المباشر. نحن في حاجة إلى مؤسسات لا تحتكر الثقافة بل تشيعها و تؤازرها، قادرة على أن تدير صناعة الثقافة بأسلوب يختلف عن إدارة المصانع و المتاجر، و عن بيروقراطية المكاتب و إستاتية المتاحف.

 

q      بينما تستطيع الحكومات العربية، بصورة أو بأخرى، حماية مصالحها في ظروف التغيرات المجتمعية الهادرة المصاحبة لدخول عصر المعلومات، يظل الإنسان العربي في أمس الحاجة إلى توفير الحد الأدنى من الحماية بعد أن انطلقت المردة من قماقمها : مردة الاقتصاد و الإعلام و من ورائهم سماسرة الثقافة، البارعون في أمور الانتهازية الفكرية و التلاعب بعقول الأغلبية. فمن يحمي هذا الإنسان العربي؟

§            لن تتوافر للإنسان العربي هذه الحماية و الذود عن حقوقه الإنسانية، بمفهوم عصر المعلومات، إلا بتضافر قادة الرأي العرب، و من ورائهم التربويون و الإعلاميون و الدعاة الدينيون من ذوي النزعة الوطنية و القومية. و من أولى المهام الواجبة هي تخليص وجه الثقافة العربية من وصمة الأمية الأبجدية، و العمل كذلك على محو أميات عصر المعلومات، و نقصد بها : أمية الكمبيوتر و المعلومات، و أمية الشكل و الرمز، و أمية الثقافة العلمية. بقول آخر : نحن بصدد مفهوم جديد لمحو الأمية يهدف إلى توفير الحد الأدنى من المعارف و المهارات و الخبرات، التي تلزم إنسان العصر كي يتكيف مع متغيرات العصر، و مطالب العيش فيه. و علينا ألا ننسى هنا أن استفادة الإنسان من المعلومات تحتاج إلى حد أدنى من التعليم يظل من دونه تحت رحمة أجهزة الإعلام كمصدر رئيسي – إن لم يكن وحيدا – لمعلوماته.

    هناك من يقول إن الإنترنت ستزيد من قدرة الإبداع و الابتكار من خلال مداومة الإبحار اللامحدود في فضاء المعلومات و توفير العديد من وسائل التعلم الذاتي و تنمية القدرات الذهنية، خاصة أن التعامل مع النظم الآلية و البرمجيات يساعد على نمو التفكير المنطقي و المنهجي. في المقابل هناك من يقول إن الإنترنت ستحيل عملية الإبداع إلى نوع من الاجترار (أو إعادة الإنتاج) لينحو الأدب إلى الوثائقية و الفن التشكيلي إلى الكولاج (القص و اللصق) و الموسيقى إلى نوع من المزج الإلكتروني، و يصبح إبهار العرض و استغلال إمكانات وسيط الإعلام عوضا عن مضمون الرسالة التي ينقلها تحقيقا لمقولة "الوسيط هو الرسالة" التي أطلقها مارشال مكلوهان رائد التنظير الإعلامي.

 

q      كيف تقيمون علاقة التقانة بتكنولوجيا المعلومات؟

§         يبدو منطقيا أن يكون مدخلنا هو تعريف الثقافة وتعريف المعلومات اللتين تعددت أوصافهما وتعريفاتهما. لم نجد أفضل في مقامنا الحالي من تعريفين لشقي العلاقة الثقافية- المعلوماتية بالغي الإيجاز وبالغي الدلالة معا، وإليك التعريفين:

. الثقافة: هي ما يبقى بعد زوال كل شيء.

. المعلومات: هي المورد الإنساني الوحيد الذي لا يتناقص بل ينمو مع زيادة استهلاكه.

    فهل نعي- نحن العرب- مغزى ثنائية التعريف هذه، فلن يبقى لنا، في نهاية الأمر، إلا ثقافتنا ومواردنا البشرية، صائغة هذه الثقافة وصنيعتها. وليس أمامنا بعد كل ما استهلكناه وأهدرناه من مواردنا المادية إلا مورد المعلومات المتجدد دوما، و إنتاج المبدعين العرب صغارا وكبارا، نخبة وعامة! قادرين و بسطاء. ولا تغير من الوضع شيئا، فيما يخص أهمية هذه الثنائية الثقافية المعلوماتية، رؤية إسلامية تعرف الثقافة ب "أنها الإسلام حين يصبح حياة"، ففي ظل هذه الرؤية نكون قد ضمينا بالثقافة قدما نحو مزيد من الرمزية والمعلوماتية بالتالي. إن أهم تحدياتنا الفكرية قاطبة، بغض النظر عن توجهنا الفكري، في سبر أغوار هذه العلاقة المحورية من منظور تنموي، و إقناع أولي الأمر وقادة الرأي لدينا بأهمية حوار المحاور: حوار الثقافة والتقانة.

 

q      هل الثقافة تابعة للتقانة، أم التقانة تابعة للثقافة؟

§             لا بديل، في رأيي إلا أن تسلم القيادة المجتمعية لقاطرة الثقافة. فالثقافة، كما تقول لوردس أريزب المدير العام المساعد لليونسكو لشؤون الثقافة، بحكم طبيعتها ترفض التهميش والاختزال، ولا يمكن لها أن تكون مجرد عامل مؤازر لعملية التنمية التكنولوجية، كما هي الحال عادة. فليس دورها، ومازال الحديث للوردس أريزب، أن تكون خادما من أجل تحقيق الغايات المادية، بل يجب أن تكون الثقافة هي الأساس الاجتماعي الذي تقوم عليه هذه الغايات نفسها. إن أي تنمية تكنولوجية منزوعة من سياق مجتمعها وثقافته هي تنمية بلا روح، ومهما زادت سطوة التكنولوجيا كما هي الحال بالنسبة لتكنولوجيا المعلومات، فيجب ألا يكون المجتمع تابعا لها، بل يجب أن تكون هي التابعة له، الملبية لمطالبه، المتوائمة مع ظروفه وقيمه و إمكاناته. إن تكنولوجيا المعلومات، من فرط قدرتها وتداخلها وانصهارها داخل الكيان المجتمعي، تبدو في نظر البعض وكأنها استقلت بذاتها، ليظن هذا البعض خطأ أنها قادرة، بمفردها ودون تدخل من أحد، على أن تحمينا من مآسي السياسة ودوجمائية الفكر، وقصر نظر التخطيط الاقتصادي. وكم من الجرائم ترتكب باسمك أيتها التكنولوجيا!! ومع ذلك، علينا أن نقر بأنه لا توجد تكنولوجيا محايدة، وعلينا أيضا ألا نجري وراء هذه الأقاويل الخادعة من قبيل: التكنولوجيا كبديل للأيديولوجيا، والتكنولوجيا متحررة من القيم، وما إلى ذلك.

 

q      رغم ما يبديه الكثيرون من حماس شديد لثورة المعلومات وأهميتها، إلا أنه مازال بيننا من لا يطيب له حديث يكشف بالمعلومات عما يجري داخل إسرائيل. حجتهم في ذلك أنه حديث غالبا ما يبعث على تثبيط الهمم، ويشغلنا بردود الفعل عن الفعل ذاته. فما ردك عن هذا؟

§             إلى هؤلاء نتساءل: هل من بديل؟ وكيف لنا أن نتحاشى مثل هذا الحديث وقدر أمتنا أن يمر كل جهد يتصدى إلى مشكلات حاضرنا من هذا "الممر غير الآمن" لصراعنا مع إسرائيل. و إن جاز أن نتغاضى عن ذلك في بعض الأمور، فلا يجوز- بالقطع - في المجال الثقافي المعلوماتي. وذلك لعدة أسباب من أهمها: الدور المهم الذي تلعبه الثقافة، سواء بالنسبة لنا أو بالنسبة للخصم الإسرائيلي. ويكفي مثالا هنا ما للغة والدين من أهمية لدينا ولديهم. أضف إلى ذلك الموقع البارز الذي تحتله التكنولوجيا الرفيعة بصفة عامة، وتكنولوجيا المعلومات بصفة خاصة، في عقل ساسة إسرائيل وعلمائها ومخططيها وموجهيها. ولعل البعض يذكر ما ورد في كلمة شيمون بيريز عند توقيع اتفاقية القاهرة "من أن المعلومات أقوى من المدفع "، وبلغ به الكرم مداه وهو يتسلم جائزة نوبل للسلام، فأفصح عن نيته تعميم تجربة إدخال الكمبيوتر في المدارس الإسرائيلية على كل البلدان العربية. هذا عن الحمائم، فما بال حديث الصقور؟ ولنعط مثالا مما تكرر ذكره على لسان نتانياهو عن عظمة وادي السيلكون الإسرائيلي الذي يربط بين مراكز البحث والتطوير المعلوماتي في مثلث: تل أبيب- القدس- حيفا، والذي لا يفوقه- على حد زعمهم- إلا وادي السيلكون الأمريكي. (والآن، يراود إسرائيل- على حد تعبير البعض- حلم الخروج من دائرة اقتصاد "القلعة المحاصرة" المعتمدة على التمويل الأجنبي والمساعدات الخارجية. سبيلها إلى تحقيق ذلك هو مخططها الشرق أوسطي. وهو المخطط الذي برع في محاباة إسرائيل فيما يخص تقسيم العمل بينها وبين العرب، فهو يكفل لإسرائيل دوام تفوقها العلمي- التكنولوجي، حيث اصطفاها بصناعات التكنولوجيا المتقدمة، تاركا للعرب الصناعات التقليدية من صناعات الأسمدة والأسمنت والصناعات الكيماوية، وكل ما يطلق عليه أحيانا مصطلح "الصناعات القذرة" بسبب نسبة التلوث العالمية التي تنجم عنها. وربما يفاجأ البعض بأنه، وبالرغم من تعثر هذا المخطط الشرق أوسطي- حاليا على الأقل- على المستوى الرسمي، إلا أن إسرائيل قد شرعت في تنفيذه بالفعل من جانب واحد. فها هي تستغني تدريجيا عن صناعاتها التقليدية لتقيم بدلا منها قاعدة ملأ الصناعات ذات التكنولوجيا الرفيعة الشحيحة العمالة، ويتلاءم ذلك مع قلة عدد سكانها، وارتفاع نسبة ذوي المؤهلات العليا بينهم. ويداعب خيال إسرائيل حلمها القديم، ونقصد به حلم إسرائيل الكبرى، ذلك الحلم البعيد المنال، الذي يعبر عن نفسه في سباقنا الحالي في رباعية مكونة من النفط السعودي، والأيدي العاملة المصرية، والمياه التركية، تقود مسيرتها بالطبع العقول الإسرائيلية. وأزعم أنه يمكن لإسرائيل أن تجعل من باقة الموارد الرباعية تلك خماسية، وذلك بأن تضم إليها رؤوس الأموال العربية التي يمكن أن تصل إليها يد إسرائيل الطولى من خلال وسيط أمريكي أو أوروبي أو أفريقي، يساعدها في ذلك نشاطها الكبير في سوق المعاملات المالية، ناهيك عن عملاء الداخل من أعضاء الطابور الخامس لتطبيع إسرائيل الصامت.

 

q      هل ستعيد تكنولوجيا المعلومات للمثقف مجده القديم؟ بعد أن همشت تكنولوجيا الصناعة دوره حتى كاد أن يصبح المثقف ديكورا اجتماعيا: أو خادما للسلطة، أو مناضلا بسيوفه الخشبية، ينزف أحبارا وألوانا وأنغاما يودعها سجون الأوراق واللوحات والشرائط والأقراص.

§             لقد اختلفت قوانين اللعب في الساحة الثقافية، بعد أن صار الأداء الكلي للمجتمع هو محصلة الخطابات التي تسري بداخله: الخطاب السياسي  والاقتصادي والديني والإعلامي والتربوي والعلمي والتكنولوجي... و هلم جرا. لقد انقضت تكنولوجيا المعلومات على الثقافة من عليين، من فضاء طبقات الأثير خلال نظم الإعلام الجماهيري الحديث، وها هي توشك أن تنقض عليها من فضاء عوالم الرمز الخائلية عبر شبكة الإنترنت، التي تتحول تدريجيا إلى وسيط إعلامي جديد و مثير و خطير. وعلى المثقف أن يواجه خياره المصيري، فإما أن يدرك ما تعنيه تكنولوجيا المعلومات ولجماهيره، وأن يتقن استخدام أدواتها، وإلا ففناؤه لا محالة، تاركا وراءه فراغا ثقافيا أعدت له منصات هوائيات الثقافة الجماهيرية- أو محطاتها كل ما يتطلبه سد هذا الفراغ من مضخات الملأ و إعادة الملأ.

 

q      أين يكمن جوهر العلاقة بين المثقف وتكنولوجيا المعلومات؟

§             وسيلتنا للوصول إلى هذا الجوهر هي: إقرارنا بأن مهمة المثقف الحقيقية هي تطبيق الفكر على الواقع من حوله، واقتراح تكتيكات عملية تعير جماهيره على التعامل مع تناقضات هذا الواقع، من أجل تحسينه أو تغييره. ولا شك في أن تكنولوجيا المعلومات يمكنها أن تكون خير عون للمثقف للإحاطة بواقعه، واستخدام بدائل عديدة لابتكار تكتيكات جديدة. لنأخذ مثلا من الإنترنت في كونها وسيلة فعالة لكي يجدد المثقف عدته المعرفية، ويحدث رصيد مهاراته، ويشحذ قدراته التواصلية. والأهم من ذلك، في رأيي التصدي لتشرذم نخبتنا الثقافية على مستوى الوطن العربي، من خلال إقامة الحوار عن بعد ابتغاء لم الشمل وحشد الجهود. وعلى المثقف أن يعي بوضوح تام أنه يواجه تركيبة جديدة من القوى الاجتماعية، وساحة جديدة للرأي العام. وكلها أمور تتطلب مثقفا من نوع جديد، ولا مفر من أن يستأنس مقامه في بيوت العناكيب، شبكة الإنترنت، الشبكة العنكبوتية كما تسمى أحيانا.

 

q      كيف الخروج من متاهة ضياع المثقف العربي مع ندرة الدراسات العربية الجادة التي تتناول موقفه إزاء ظاهرة المعلومات، وتحديد بروفيل هذا "التكنو مثقف" كما يطلقون عليه؟

§             لا سبيل أمامنا إلا الرحيل إلى ديار غيرنا عبر الإنترنت، بحثا عن علاقة المثقف بتكنولوجيا المعلومات، عسانا نجد زادا نحمله معنا في شوط إيابنا. وما إن أبحرنا حتى فاجأتنا آلات البحث في مصادر معلومات الإنترنت بعدد كبير من الوثائق التي تتناول هذه القضية شبه الغائبة عن ساحتنا الثقافية، ولا بديل أمام إفراط المعلومات هذا من أن ننتقي ونرشح ونلخص، مركزين الحديث على ثنائية مثقف الحداثة وما بعدها. تفرق هذه الثنائية بين المثقف المهموم بكبريات السياسة (الماكروبولتيك) والذي يمثل له بمثقف سارتر الناقد الملتزم، ومثقف صغريات السياسة (الميكروبولتيك) ويمثل له بمثقف ما بعد الحداثة كما عرفه ميشيل فوكو (257).

 

q      ما هي التحديات الراهنة التي تواجه المثقف العربي منمنظور ثقافة المعلومات؟

§             أرى أن هذه التحديات تتفرع إلى ثلاث مستويات : تحديات الداخل، تحديات الخارج، تحديات إعداد المثقف لنفسه

 

q      ما هي أبرز ملامح تحديات الداخل؟

§         - حشد التكتل العربي ضد محاولات الفرقة والتفرقة، سواء من الداخل أو الخارج.

- لم شمل النخبة المثقفة، وإعادة قنوات الحوار بين فئاتها المختلفة: قومية وإسلامية وعلمانية وغير ذلك، وتحاشي الانزلاق إلى القضايا الجانبية، واستثارة الحساسيات دون داع، حتى لا تغيب عن أنظارها القضايا الأساسية.

- التصدي للروح السلبية، وفقدان الثقة التي تعاني منها معظم جماهير أمتنا العربية في ظل أوضاعنا الراهنة.

- إجهاض محاولات بعض النظم لتحريم الحديث في الأمور السياسية فكل أمورنا تمر من بوغاز السياسة.

- تفعيل قنوات التواصل بين مثقفي المشرق والمغرب، واستثمار فكر مثقفي المهجر على اختلاف توجهاتهم وتخصصاتهم، من أمثال: إدوارد سعيد و إيهاب حسن وجورج طرابيشي ومحمد أركون.

- التصدي لمظاهر إهدار العقل العربي بدءا من الأمية وانتهاء بنزيف العقول، وما بينهما من فكر الخرافة، وشبه العلمية، واللاعلمية والانتهازية الفكرية والسرقات العلمية والاستبعاد المعرفي، وهادر إنتاجنا التعليمي والبحثي.

- التخلص من الثنائيات الفكرية التي تكبل فكرنا العربي وتعوق تكتله.

- التمسك بحقها في توجيه سياسات المؤسسات الثقافية و رصد أدائها، وعلى رأسها سياسة الإعلام وسياسة التربية.

- التصدي لأزمة اللغة العربية، تنظيرا وتعليما واستخداما، والمساهمة في بلورة سياسة لغوية قومية، باعتبار اللغة هي أفضل وسائل التكتل العربي، و المدخل الطبيعي إلى إحداث النهضة الثقافية المطلوبة، علاوة على كونها من أهم مقومات تكنولوجيا المعلومات و صناعة الثقافة.

- نزع فتيل الخصومة التي يفتعلها البعض بين ديننا والعلم، وعدم إساءة فهم مفهوم عالمية الإسلام على أنها تعني الاستغناء عن فكر الآخرين، فالمقصود بالعالمية في رأي أهلها هو استيعاب فكر الآخر لا تجاهله أو تجهيله.

- الاهتمام بسواقط مجتمعنا التقليدية (الطفل والمرأة وكبار السن)، والوقوف بحسم ضد التنويعات الجديدة من طبقية عصر المعلومات.

- ترسيخ التوجه التنموي الاجتماعي لتوطين تكنولوجيا المعلومات في تربتنا العربية.

- تشجيع إقامة صناعة ثقافية عربية تقوم على ركيزة قوية من صناعة المعلومات.

- تنمية الوعي بأهمية التراث كمورد ثقافي تتنامى أهميته في عصر المعلومات، وضرورة مداومة تجديده، و إعادة قراءته وتوظيفه من منظور حاضرنا.

- العمل على إحياء الفكر الفلسفي، والتصدي لنظرة البعض المتدنية للفلسفة، بل للفكر النظري عموما، تحت وقع انبهار هذا البعض بالإنجازات العلمية والتكنولوجية.

- ويرتبط بما سبق ضرورة مساهمة نخبتنا المثقفة في الجهد العالمي الذي ما زال في بداية مشواره، لتأسيس علوم الإنسانيات، وبلورة نظرية اجتماعية مغايرة تستوعب متغيرات عصر المعلومات والتكنولوجيا الحيوية.

 

q      ماذا عن تحديات الخارج؟

§         - تهيئة الشعوب العربية للصراع الثقافي- المعلوماتي مع الخصم الإسرائيلي.

- التوعية بسلبيات العولمة واتفاقية الجات.

- المساهمة في صياغة صورة الثقافة العربية والإسلامية على الإنترنت، وتحسين صورتها الراهنة.

- اكتساب المهارات والمقومات اللازمة لإقامة حوار متكافئ مع ثقافة الغير.

- مراجعة شاملة لنتائج الحوار الإسلامي المسيحي، وتجديد منطلقاته في ضوء تجارب العشرين سنة الماضية.

    وعلينا أق نقر بأن الكنيسة المسيحية الغربية حريصة على جدية هذا الحوار، خاصة مع الرغبة المتزايدة لدى معظم رجال الدين، لتضافر الجهود عالميا ضد سلبيات العولمة وطابعها المادي الاستهلاكي. بقول آخر: فلنرجئ حاليا حديث التنصير والتبشير والأسلمة، فالعالم في حاجة اليوم إلى الأنسنة، وستظل روعة الدين في قدرته على أن يدفع بفصائل البشرية صوب هدفها المشترك، وليس كما يريد له البعض أن يجر وراءه قطعانها.

 

q      و ماذا عن تحديات المثقف في إعداد نفسه؟

§         - التعرف على خريطة الفكر العربي الراهن وتوجهاته الرئيسية.

- التخلص- كما يوصي تركي الحمد من عزلته الذهنية المفاهيمية زمانا ومكانا وهي العزلة التي تنعكس سياسيا على موقفه من الأحداث ومن تقييمها.

- استيعاب الجوانب الثقافية والاجتماعية للمتغير المعلوماتي، وعليه أن يسبق مثقف الحكومة في ذلك، والذي- عادة- ما تستعين الحكومة في تأهيله بالخبراء الفنيين وهنا نقطة ضعفه.

- تجديد عدته المعرفية، من نظرية الأدب إلى نظرية المعلومات، ومن اقتصاد الماكرو إلى البيولوجيا الجزئية، ومن فلسفة العلم إلى الذكاء الاصطناعي وخائلية عوالم الإنترنت.

- اكتساب مهارات التواصل عبر الإنترنت و إجادة " اتيكيت " التحاور عن بعد.

 

q      كيف تقيمون واقع البرمجيات العربية؟

§             كما هو معروف تقوم صناعة الثقافة على ثلاث مقومات رئيسية هي : المحتوى content الذي يمثل مواد التصنيع المعلوماتي و معالجة المعلومات التي تمثل أدوات الإنتاج، و شبكات الاتصالات التي تمثل قنوات التوزيع. و في هذا الإطار، علينا أن نضع نصب أعيننا أن أهم مقوم في تلك الثلاثية هو ذلك الخاص بالمحتوى، و الذي يعني في حالتنا موارد تراثنا الرمزي، من نصوص و موسيقى و أفلام و قواعد بيانات، و كذلك الطاقات الإبداعية الخلاقة القادرة على إبداع المحتوى الجديد.

    و تجدر الإشارة إلى أن هناك حاليا محاولات من قبل مؤسسات عالمية لشراء التراث الفني العربي من أفلام و أغان و موسيقى. هذا فيما يخص الموارد الثقافية و التراثية القائمة بالفعل، أما فيما يخص إنتاج محتوى جديد، فيكفي أن نشير هنا، إلى الضمور الشديد الذي نعاني منه حاليا في مجال الإنتاج التلفزيوني و السينمائي، ناهيك عن إنتاج مواد الصحافة التي نستورد معظمها من وكالات الأنباء الأجنبية.

    و إني أرى أنه لا بديل لتكامل معلوماتي إعلامي عربي، يقوم على حشد الإمكانات و المشاركة في الموارد المعلوماتية، من أجل مواجهة التكتلات العملاقة، و التصدي للنزعة الاحتكارية، خاصة في مجال صناعة البرمجيات، و من المعروف أن من أمضى أسلحة الاحتكار في المجال التكنولوجي هو سلاح التوحيد القياسي، وهو غالبا ما يتم عن طريق فرض المعايير القياسية بحكم الأمر الواقع de-facto standards من قبل الشركات المهيمنة على الأسواق. و ما أكثر هذه المعايير في شبكة الإنترنت، خاصة تلك المتعلقة ببروتوكولات تبادل المعلومات، و مواصفات تسجيل البيانات من نصوص و موسيقى و أشكال و فيديو. وهو الأمر الذي يستلزم مداومة المعلومات، علاوة على ضرورة اتباع أساليب مرنة في التخطيط و التصميم لضمان الانتقال السلس مع تغير المواصفات القياسية.

   

q      هل من تفسير تقدمه لضعف فاعلية مواقعنا العربية؟

§             لعل من الأسباب الرئيسية غياب علاقات التشعب و التناص التي تعود إلى قصور خدمات المعلومات، و نقص الدراسات عبر التخصصية، و الدراسات المقارنة، إضافة إلى حواجز الاستبعاد المعرفي تحت دعوى التصدي للتغريب أو تفردنا الثقافي و الحضاري. و لا يمكن أن نغفل هنا ما نعانيه من نقص في نظم فهرسة النصوص آليا، و يقصد بها تلك المستخدمة في اختزال النصوص إلى الكلمات المفتاحية و المفاهيم الأساسية الكاشفة عن مضمونها، و التي يربط من خلالها – عادة – بين الوثائق المختلفة. لقد أصبحت الفهرسة الآلية وسيلة لا غنى عنها بعد أن أصبح من المعتذر الاعتماد على وسائل الفهرسة اليدوية، نظرا إلى التضخم الهائل في معدل إنتاج الوثائق.

    إضافة إلى هذا شتان الفرق بين برودة و جمود التلقي السلبي، حرارة و حيوية التفاعل الإيجابي، لذا فإن الغلبة في النهاية ستكون لصاحب الرسالة الثقافية التي تتسم بالتفاعل، و تحث على المشاركة الجماعية، و تشكل ديناميا وفقا لرجع الصدى الذي يعكس مطالب المتلقين و أهواءهم. بناء على ذلك، لم يعد كافيا، في نقل رسالتنا الثقافية عبر الإنترنت، أن يقتصر الجهد على عرض الجوانب المختلفة لمادتها، بل يجب علينا مراعاة جاذبية تصميمها، و مداومة تحديث مضمونها، و أن  نراعي كذلك كيف يتلقى المستقبل هذه الرسائل، و كيف يستوعبها، و كيف يدمجها في روتين حياته اليومية وممارساته العملية.

 

q      لقد فتحت الإنترنت بوابات الفيضان المعلوماتي على مصاريعها، لتصبح مشكلة الإفراط المعلوماتي من أخطر المشاكل التي نواجهها حاليا ما السبيل لمواجهة هذه المشاكل؟

§             أصبح في حكم المؤكد استحالة التعويل على الوسائل البشرية وحدها لمسح الشبكة دوريا بحثا عن المعلومات المطلوبة، و كان لابد من أتمتة هذه العملية، و ذلك باللجوء إلى ما يسمى بالروبوت المعرفي knowbot ، أو البرمجي softbot ، بصفته "وكيلا آليا" يحال إليه القيام بهذه المهام الروتينية  الشاقة. إن الروبوت المعرفي هو "شغال" الإنترنت، المطيع الدؤوب الدائم التجوال بين أرجاء الشبكة لتنفيذ المهام الموكلة إليه، و الوكيل الآلي ليس بالروبوت الغشيم بل له نصيب من الذكاء الاصطناعي يمنحه القدرة على التحليل و الاستنتاج و التوقع، و له أيضا استقلاليته في اتخاذ القرارات وفقا للسلطات المخولة إليه، و إقامة الحوار مع زملاء عشيرته ليعملوا كفريق عمل متكامل أقرب ما يكون إلى عمل "مملكة النمل" كما أشرنا سلفا.

    علاوة على ما سبق، و نتيجة للمعدل المتسارع لتضخيم حجم المعلومات، سيتزايد اللجوء إلى الوسائل الأتوماتية للبحث و التحليل و التنظيم، نذكر منها على سبيل المثال :

- آليات البحث الفائق meta-search التي تمزج بين البحث بمدخل الموضوع (كأن نبحث عن موضوع "العمارة الإسلامية" مثلا) و البحث عن لفظ بعينه، أو مجموعة ألفاظ بعينها في متن النصوص (كأن نبحث عن لفظ "الكعبة" أو "الحرم المكي" مثلا).

- منظمات المعلومات الفائقة hyper-organizers التي تقوم بفهرسة المعلومات و تبويبها و تخزينها.

- روبوتات الأرشفة archive crawlers التي تقوم بأرشفة مواقع الشبكة بصفة دورية.

 

q      لعلنا لا نختلف معك في مدى أهمية هذه التكنولوجيا في المجال الثقافي و فكرا و تعليما و إعلاما و ترفيها و تراثا، وهو ما يستوجب أن نلحق بها ، فهل بالإمكان اللحاق الآن؟

§             أقول إن ذلك ممكن و أكيد فكم هو قاس على المرء أن يسمع أن حرب الخليج كانت أول تجربة عملية شهدها كوكبنا لتكنولوجيا الواقع الخائلي، و أن إسرائيل تسعى حاليا إلى بناء نماذج خائلية لمدينة القدس العربية، و أن جامعة كارنيجي ميلون و متحف اللوفر يجريان تجاربهما الخائلية على كنوز مصر الفرعونية. و ما أخطر أن يطول انتظارنا، لنجد أنفسنا في النهاية فئران تجارب لمغامراتهم الخائلية، أو سوقا مستهدفة لبضاعة الجنس الخائلي، بعد أن أغرقوا أسواقنا بعري أفلامهم المحرمة، و أحاديث الغواية المدفوعة عبر الخدمات الهاتفية.

    إن مدارسنا العربية في حاجة إلى معامل خائلية لتعويض النقص في المعامل الحقيقية، أو القيام بما يتعذر القيام به في تلك المعامل، و متاحفنا في حاجة إلى بيئة خائلية لعرض مقتنياتها في سياق تاريخي و معرفي أوسع و أشمل، حتى لا تظل تلك المقتنيات حبيسة الجدران و الصناديق الزجاجية، و حتى يتحول التاريخ إلى مادة حية تساهم في صنع الحاضر و عقل حاضريه. و نحن في حاجة أيضا إلى اكتساب القدرة على إعادة بناء مدننا القديمة و جوامعنا و معابدنا و قصور خلفائنا و ملوكنا و ما شابه، و إلا أعاد بناءها غيرنا، في إطار مخططاتهم لصناعة سياحة خائلية موازية لسياحة الواقع. و أخيرا و ليس آخرا، نحن في حاجة إلى تكنولوجيا الواقع الخائلي لسرعة تدريب الكادرات المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات و غيرها من فروع التكنولوجيا المتقدمة.

 

q      بعد خمسة قرون من اختراع جوتنبرج، يظهر الكمبيوتر في منتصف القرن العشرين ليثبت في سنوات قلائل جدارته كآلة مثلى لمعالجة المعلومات، قادرة على "توظيف المعرفة" لا مجرد نشرها فما هي آفاق هذا التوظيف و ماذا ينتظر منه؟

§             بعد أن نجحت – للمرة الأولى – عن طريق البرمجة، في تحويل المعرفة الخامدة سجينة الأوراق إلى معرفة حية فعالة ، المعرفة و هي تعمل بالفعل : وهي تصميم المباني و المحركات و الرسوم و الأزياء، وهي تضبط الحسابات و تراقب الميزانيات و تدعم القرارات وتعلم الصغار و الكبار وهي توجه الصواريخ و تطلق الأقمار الصناعية و تتحكم في المفاعلات النووية. و بات الأمل معقودا على المعرفة، و قد تحررت و انصهرت في كيان المجتمع الإنساني بفضل نظم المعلومات الآلية، في أن تعيد لهذا المجتمع توازنه و تسترد للإنسان إنسانيته و وفاقه مع مجتمعه و بيئته. عساها تهب بذلك لعصر المعلومات حداثة جديدة، حداثة تقوم على ثلاثية مغايرة لتلك المذكورة أعلاه، تحل فيها المشاركة الإيجابية محل الديمقراطية الشكلية، و العلمية محل العلمانية بمعناها الأيديولوجي، و حرية الثقافة الأشمل محل حرية الفرد، متجاوزة إياها إلى حرية المجتمع ككل، و نعني بذلك حقه في التمسك بخصوصية ثقافته، و المحافظة على هويته، و اختيار نمط تنميته و حماية بيئته. و هكذا، و بافتراض حدوث ذلك، تتقلص هيمنة الأقوياء على الضعفاء، و المراكز على الأطراف، و تسقط سلطة النظم و المؤسسات، و سيطرة الإنسان على الطبيعة التي أبادت الكائنات، و لوثت الهواء و المياه و الأخلاق. و كما أسقطت تكنولوجيا المعلومات أن تسقط سلطة المؤلف على قارئه، لينتزع هذا القارئ حقه في حرية قراءة نصه وفقا لرؤيته و غايته. و على المنوال نفسه، يتحرر المتلقي من قبضة الفنان ليرى اللوحات بعيون مختلفة و من منظور مختلف، و يتحرر المشاهد من سلطة القابض على بث الرسالة الإعلامية، ليشاهد ما يحلو له في الوقت الذي يناسبه، و يختار لنفسه وبنفسه نوعية الرسائل التي تتواءم مع "بروفيله المعلوماتي".

    و لم يتوقف طموح أهل تكنولوجيا المعلومات عند حدود "توظيف المعرفة" فها هم مهندسو الذكاء الاصطناعي، بعد أن نجحوا في إكساب آلة المعلومات القدرة على حل المسائل و برهنة النظريات، ها هم يسعون حاليا إلى إكساب هذه الآلة القدرة على التعلم ذاتيا، بحيث تصبح قادرة على "توليد المعرفة الجديدة" لا مجرد توظيفها، و يتوازى مع طموح الذكاء الاصطناعي طموح آخر لا يقل جسارة و إثارة في مجال تكنولوجيا الواقع الخائلي التي تسعى إلى سرعة اكتساب الخبرات و تخزين الخبرات نفسها، أي "تعليب المعرفة سابقة التوظيف" – إن جاز التعبير – في صورة خبرات عملية تعمل رهن إشارتنا كخبراء تحت الطلب، و ذلك لمواجهة المواقف الصعبة و الطارئة، و حل المشاكل و دعم اتخاذ القرارات. إنها وسيلة لنقل حكمة السابقين إلى اللاحقين، حتى يستطيع إنسان هذا العصر مواجهة الكم الهائل من المشاكل التي تواجهه، فلا تفوق قدرة الإنسان على حل المشاكل – كما يقول مؤسس منتدى روما الفكري – إلا قدرته على خلق مشاكل جديدة.

 

q      إن دورة تفعيل المعرفة داخل منظومة المجتمع هي حلقة متصلة، مكونة من ثلاثة عناصر أساسية هي : اقتناء المعرفة فاستيعابها ثم توظيفها. فأين يكمن الخلل داخل هذه الحلقة في مجتمعنا العربي؟

§             لا نضيف جديدا إذ نقر بتفكك هذه الحلقة المعرفية لدينا، فعادة ما يغيب عنها شق توظيفها في حل مشكلات المجتمع و تنمية أفراده و موارده. و في كثير من الأحيان يتوقف الجهد عند حدود اقتناء المعرفة دون استيعابها في إطار الظروف المحلية. و لا يرجع ذلك فقط إلى النزعة اللاعلمية المتمثلة في معاداة العلم و التشبه الزائف به، بل يرجع – أساسا – إلى ضعف امتصاص مجتمعاتنا العربية للرحيق المعرفي، و ذلك لأسباب عدة : تربوية و تنظيمية و سياسية و اقتصادية، و لا يجب أن  نغفل هنا تلك الأسباب المتعلقة بالغوغائية الدينية و الإرهاب الفكري. و الأمل معقود مرة أخرى على تكنولوجيا المعلومات في تفتيح مسامنا المعرفية، بما تتيحه تلك التكنولوجيا من وسائل عدة لاقتناء المعرفة و استيعابها و توظيفها. و لا عذر لنا إن تقاعسنا في استغلال هذه الفرص، فالنتيجة الأكيدة لذلك أن تظل المعلومات و حلول المشاكل تأتينا من مصادرها التقليدية.

 

q      كيف نحمي "التنوع الثقافي" من الانقراض، بسبب إساءة استخدام تكنولوجيا المعلومات، و هيمنة "القطب المعلوماتي – الثقافي" الأمريكي الأوحد، و هيمنة لغتها الإنجليزية و ثقافاتها الجماهيرية على لغات العالم و ثقافاته؟

§             لقد باتت هذه القضية المحورية هي شاغل الجميع بعدها اتضح ما لوسائل الاتصال الحديثة، و على رأسها الإنترنت، من إمكانات تؤهلها لتصبح أمضى أسلحة الهيمنة الثقافية و الاقتصادية و السياسية بل الأمنية أيضا. لقد جثم هذا الهاجس المخيف على المؤتمر الأخير الذي عقدته منظمة اليونسكو حول الثقافة و التنمية، في مارس 1998 بمدينة استكهولم، و الذي خلص إلى ضرورة النظر إلى تكنولوجيا المعلومات من منظور ثقافي تنموي، و ضرورة تكاليف الشعوب و الأمم من أجل التصدي لظاهرة التجنيس الثقافي الجاري حاليا على قدم و ساق.

 

q      تمثل الإنترنت بالنسبة لنا – نحن العرب – تحديا ثقافيا قاسيا على جميع الجبهات، سواء فيما يخص مضمون رسائلنا الثقافية، و قيمة تراثنا عالميا، و فاعلية مؤسساتنا الثقافية الرسمية و غير الرسمية، أو فيما يخص أساليب حوارنا فيما بيننا و مع الغير فما السبيل لرفع هذا التحدي؟

§             نعم نحن معرضون لحالة فريدة من الداروينية الثقافية، أصبحنا مهددين في ظلها بفجوة لغوية تفصل بين العربية و لغات العالم المتقدم، تنظيرا و تعليما و استخداما و توثيقا، مثلما نحن مهددون بضمور شديد في إنتاجنا الإعلامي و السينمائي و إبداعنا الفني، و مهددون – أيضا – بسلب تراثنا من فنون شعبية و أغان و مقامات موسيقية و أزياء و طرز معمارية.

    و في المقابل، تفتح الإنترنت أمامنا فرصا عدة لتثبيت دعائم ثقافتنا العربية بصفتها ثقافة إنسانية عالمية أصيلة و تعويض تخلفنا في كثير من مجالات العمل الثقافي. إن الموقف يتطلب إعادة النظر بصورة شاملة في سياساتنا الثقافية تجاوبا مع ثقافة الإنترنت. و ذلك في إطار الاستراتيجية الشاملة للثقافة العربية التي أعدتها المنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم، و وفقا لتوصيات مؤتمر اليونسكو باستكهولم.

 

q      هل يمكن للمعلومات و تغذيتها المرتدة أن ترأب الصدع في المجتمع الإنساني الحديث، بعد أن أصبح أشد اختلالا و تناقضا، يعاني مما يمكن أن نسميه بحضارة الانفصال (انفصال بين الفكر و السلوك، و بين النظرية و التطبيق، و بين التعليم و التربية)؟

§             إن دور نظم المعلومات المجتمعية – في المقام الأول – هو إبراز حدة التناقضات الناجمة عن هذا الانفصال، و الكشف عن علاقات الترابط بينها، و ذلك كمطلب أساسي من أجل مجتمع أكثر توازنا و تواؤما و تكيفا.

 

q      إننا نعاني من حالة تشتت و تشرذم معرفي فما السبل لتجاوز هذه الوضعية؟

§             إن خريطة الفكر العربي سلسلة من الجزر المنعزلة، خالية من الجسور، مليئة بالفجوات و المناطق المجهولة. و قد أظهرت – و ستظهر – تحديات عصر المعلومات مدى تشتتنا المعرفي، و لنأخذ مثالا لهذا التشتت – و ما أكثر الأمثلة – حالة التشرذم المعرفي الشديد التي يعيشها فكرنا اللغوي الراهن، و المتمثلة في انعدام الحوار بين اللغويين و المعجميين و التربويين و الإعلاميين و علماء النفس و الكمبيوتر و لتضم إليهم حديثا علماء البيولوجي، بعد أن تنامت علاقتهم بقضايا اللغة. و يرى الكاتب أنه لا حل للتشتت و التشرذم إلا باللجوء إلى المعلومات، كأداة مثلى للإسراع في عملية التكامل المعرفي.

    لا يخفى على أحد مدى قصور تنظيرنا الثقافي، وهو إحدى النتائج المنطقية لغياب التكامل المعرفي، خاصة بعد أن تعددت الفروع المعرفية المغذية لعلم الثقافة. و نحن نوافق الرأي القائل إننا نجهل الكثير عن أمور ثقافتنا الشعبية، و مازلنا ننظر بعين ملؤها الشك – كما أشرنا سلفا – إلى تنوعنا الثقافي بروافده المختلفة، التي تصب في مسار الثقافة العربية. يتطلب كل هذا سندا معلوماتيا قويا لإقامة الخرائط الثقافية، و قواعد البيانات اللازمة لثقافتنا الشعبية، و مظاهر تنوعنا الثقافي، ناهيك عما تضيفه العولمة من مطالب لمواجهة غزوها الثقافي.

    خلاصة المقال، من كل ما قيل و ما سيقال، أن لا غنى عن المعلومات في مواجهة إشكاليات ثقافتنا و حسن استغلالنا لمواردها.

    و إني أنظر إلى الثقافة العلمية، استهداء بما أوضحه الخولي، كقضية ذات وجهين، و يقصد بذلك أنها تتطلب تثقيف غير العلميين علميا، و توعية العلميين ثقافيا، بل و علميا أيضا. فلا يخفى على أحد أن كثيرا من علمائنا باتوا أنفسهم في حاجة إلى تثقيف علمي يحررهم من أسر تخصصهم الضيق، و يسد فجوات الفراغ الفكري لديهم. و كما متوقع، لا يقر هؤلاء العلماء المتخصصون بسهولة بوجود مثل هذا الفراغ الفكري، و غالبا ما يملئونه بمط نطاق تخصصهم العلمي، متخذين منه نوعا من "الأيديولوجيا الشاملة" أحادية الأبعاد، و اختزال العالم و مشكلاته في عدد محدود من المقولات و المسلمات، أو الوقوع في فخ "شبه العلم quasi-science" و السطحية العلمية.

 

q      إننا نصبو إلى تكنولوجيا إنسانية تعيد إلى الإنسان إنسانيته، و تكنولوجيا اجتماعية تعيد للمجتمع الإنساني توازنه و عقلانيته. فهل يمكن أن تساهم تكنولوجيا المعلومات في تحقيق هذا؟

§             لا شك في أن تكنولوجيا المعلومات بفضل مرونتها الهائلة ستكون أكثر قابلية للتوحد الاجتماعي. يستلزم ذلك – بداية – نظرية اجتماعية جديدة تماما، نظرية لا ترى الثقافة مجرد عامل مساعد يدفع المجتمع صوب غاياته، كما في نموذج ماكس فيبر، و لا تختزل الثقافة إلى ناتج فرعي لطور الإنتاج السائد، كما في نموذج كارل ماركس ذي التمركز الاقتصادي، و لا تقتصر دور الثقافة على كونها مؤسسة ضمن مؤسسات اجتماعية أخرى، كما في نموذج إميل دوركايم. إجمالا، نحن ننشد نظرية لا تتعامل مع " طور إعادة الإنتاج" بل "طور المعلومات" كما طالب مارك بوستر. و "طور المعلومات" يعني – في جوهره – "طور إعادة الإنتاج" فكل ما ينتجه مجتمع المعلومات، من نصوص و صور و أفلام و موسيقى و برامج، قابل للنسخ، أو إعادة الإنتاج، بل يمكن أيضا إعادة إنتاج الخبرات و الخبراء.

 

q      ما شكل المجتمع الإنساني الذي ستفرزه في المقابل تكنولوجيا المعلومات؟

§             يصعب بالطبع التكهن به، إلا أنه على ما يبدو سيكون – بصورة أو بأخرى – صيغة وسطى ما بين العالمية و المحلية، و ما بين العام و الخاص، و ما بين الحكومي و غير الحكومي، و ما بين المؤسسي و الفردي، مجتمعا عازفا عن مركزية الإدارة والسلطة و الحكومات المتضخمة، مفضلا عليها الإدارة اللامركزية و الإنتاج الموزع و الحكومات المتضخمة، مفضلا عليها الإدارة اللامركزية و الإنتاج الموزع و الحكومات المتضائلة، مجتمعا ينأى عن التعامل مع " الكتل المتجانسة massification " المتمثل في إنتاج الجملة و الإعلام الجماهيري و تعليم المجموعات الغفيرة، منحازا إلى "اللاكتلي" في الإنتاج و الإعلام و التعليم، بل ربما في أمور السياسة أيضا. و كما يقول بيير ليفي فإننا نواجه ظاهرة اجتماعية جديدة تماما قاصدا بذلك الذكاء الجمعي الكلي الذي يتضاعف بصورة أسية مع زيادة التفاعل و زيادة معدل إنتاج المعرفة و تداولها و استهلاكها، و زيادة التفاعل بين عناصر المنظومة المجتمعية.

 

q      تتطلب ثقافة المعلومات إعادة طرح العلاقة بين الإنسان و المجتمع، و موقف الفئات الثقافية المختلفة من منظومة الثقافة. فكيف يمكن تحقيق ذلك؟

§             إن ثقافة المعلومات تستدعي نظرة جديدة نحو الذات الإنسانية، نظرة متحررة من حتمية المثلث الأوديبي تتجاوز رباعية الجسد و الغرائز و العقل و الروح، جاعلة من النضوج النفسي نتاجا لتفاعل الفسيولوجي مع الرمزي، و ترى الذات مشروعا رمزيا يتحقق من خلال التفاعل الإيجابي الحي مع عالم الواقع و عوالم الفضاء المعلوماتي، و من خلال الممارسة و المشاركة و تقبل المخاطر، و القدرة على اتخاذ القرارات و الوعي ببدائل الخيارات، و لابد لهذه النظرة الجديدة تجاه الذات الإنسانية أن تتعرض لعلاقة الإنسان بالآلة بعد امتزاجهما في توليفة "تكنو-حيوية" ذات طالع جدلي تكاد تفقده السيطرة على آلته، و بالتالي على عالمه و على ذاته أيضا. و من المسلّم به أن هذا لن يتحقق إلا إذا أدركت الفئات الاجتماعية المختلفة منقادة الرأي و الإعلاميين و التربويين و الدعاة الدينيين ماذا تعنيه ثقافة المعلومات بالنسبة للمجتمع ككل : أفراده و جماعاته و مؤسساته و علاقاته، علاوة على تحدياته و فرصه و توقعاته.

 

q      يمثل حوار الثقافات تحديا  حقيقيا لثقافتنا العربية، خاصة في ضوء ما يقال عن عالميتها، و قاعدتها الذهبية في اتخاذ المواقف الوسطى المتوازنة بين ثقافات العالم المختلفة. فما السبيل للاستفادة من ثقافات الغير؟

§             أرى أنه لا يمكن الاستفادة من ثقافات الغير لتجديد فكرنا الثقافي، و شحذ رسائلنا الثقافية، و تقويم دروعنا ضد غزو الثقافات الوافدة، إلا بما يلي :

-        دراسة الثقافة الأمريكية بصفتها الثقافة المهيمنة على ثقافة عصر المعلومات، و ذلك بهدف تفكيك وسائلها، و تفهم الأسباب التي أدت ببعض رواد  هذه الثقافة إلى المطالبة بضرورة المراجعة الشاملة للأسس التي قامت عليها بشكل عام، و الفكر الإغريقي و فكر الديانة المسيحية تحديدا.

-        دراسة السياسات الثقافية لدول الاتحاد الأوروبي، فيما يخص كيفية تعاملهم مع ظاهرة التنوع الثقافي، خاصة في المجال اللغوي (17 لغة)، و كذلك في أساليب تصديهم للغزو الثقافي الأمريكي. و علينا أن نستفيد في ذلك من اتفاقيات الشراكة الأوروبية – العربية، التي أدرجت للمرة الأولى في اتفاقية برشلونة الجوانب الثقافية و التربوية، بعد أن كانت مقصورة على الجوانب الاقتصادية.

-        دراسة ثقافة دول أمريكا اللاتينية، فيما يخص أوجه التشابه الثقافي اللافتة بينهم و بيننا، فيما يخص وحدة اللغة (اللغة الإسبانية) و الفوارق الاقتصادية و الاجتماعية، بين الدول البترولية و غير البترولية. فضلا عن ذلك، فالدين يحتل موقعا بارزا بين الروافد المغذية للثقافتين و قد اقترنت عملية التحديث الاجتماعي في كل منهما بظهور حركات احتجاج اجتماعي واسعة تحت شعار الدين. و الأهم من هذا و ذاك، كيفية مواجهة الضغوط الأمريكية الثقافية، حيث تمثل دول أمريكا اللاتينية خط المواجهة الأول مع هذه الثقافة.

فضلا عن ذلك، و مما لا شك فيه، أن العلاقة التاريخية الخاصة التي تربط العرب بإسبانيا يمكن أن تساهم في توطيد العلاقات الثقافية بيننا و بين شعوب أمريكا اللاتينية.

-        دراسة ثقافة دول جنوب آسيا : فيما يخص نجاحهم في التوفيق بين خصوصيات ثقافاتهم المحلية و مطالب التنمية التكنولوجية و المعلوماتية.

 

q      منذ ما يربو على قرن، و فكرنا الثقافي يدور حول الأسئلة العقيمة ذاتها، مثل : الأصالة و المعاصرة، المحلية و العالمية، ماذا انحدر إلينا من الماضي و ماذا وفد علينا من الغرب؟ فما هو موقفك من هذا السجال؟.

§             لقد آن الأوان لتجاوز هذه البدهيات الثقافية، فما من ذي عقل يرفض أن نجمع بين أصالة هويتنا الحضارية و معاصرة حياتنا الراهنة، و ما من أحد يقبل أن نقف تائهين نصطنع تلك الحيرة بين اللاتاريخ و اللاحاضر. لقد حسم غيرنا أمره في مواجهة هذه الأسئلة المفتعلة، رافضا الإقرار بتناقضها الذي يوحي به ظاهر صيغتها، فها هي اليابان، رائدة تكنولوجيا العصر، تتباهى بمسرح الكابوكي و تتمسك بقيمها و طقوسها. و هل لنا أن ننسى عدم إذعانها لأوامر المحتل الأمريكي باستخدام الحروف اللاتينية اليابانية. و ها هي تماثيل بوذا و تعليمات كونفوشيوس تصادفنا في أروقة مسابك الشرائح الإلكترونية في تاوان وهونج كونج و هناك حركة نشطة في الصين حاليا لإعادة بناء الثقافة الصينية على أسس التعاليم الكونفوشيوسية، و ما أكثر هؤلاء الشباب الإسرائيليين م مرتدي "طاقية نصف الرغيف، الذين يغادرون مكاتبهم في وادي السيلكون الإسرائيلي ليتهدجوا بتعاويذهم أمام حائط المبكى. و لماذا نذهب بعيدا؟  ألم ينجح منظرنا اللغوي القدير عبد القادر الفاسي النهري في أن يجمع بين آخر ما وصلت إليه مشارف علم اللغة الحديث و خصائص لغتنا العربية؟ و ألم ينجح باحثوا المغرب العربي في علم الخطاب، و أقرانهن في مصر من أمثال صلاح فضل، في أن يطوعوا آخر إنجازات علم النص لمطالب نصوصنا؟ و ألم ينجح رواد تعريب العلوم في سوريا أن يثبتوا جدارة العربية في التعامل مع جميع فروع المعرفة الحديثة؟ و ألم ينجح شعراء العراق و سوريا و مصر في أن يجددوا إبداعنا الشعري؟ و أخيرا و ليس آخرا، هل لنا أن نغفل كيف نجح نجيب محفوظ في أن يجعل من أزقة الحارة المصرية ساحة حضارية تسع العالم بأسره، راهنه و ماضيه.

     نحن نشكو من فجوة تنظيرية تتسع يوما عن يوم تفصل بين أصولنا الثقافية و واقعنا الراهن، و بين تراث ماضينا و فكر حاضرنا.

    فيا أيها الراقدون تحت "التراث" ما التراث برمم القبور، بل ماء للحياة و إكسير لإحياء العقول و النفوس، فلتضيفوا إلى هذا التراث مضامين من حاضركم، و لتنزعوا عنكم دثاركم الزائف. أقول بلغة المجاز : نريد فكرا نافذا يخترق مسام الجلود، وصولا إلى نخاع ثقافتنا، و هذا الماء الرائق الدافق بين صلب العقائد و ترائق النصوص، مرورا بأحشاء نظمنا الاجتماعية، و رئة ثقافتنا، و هوائها الذي نتنفسه لغة و شعرا و نثرا، و بذلك الإبداع الذي يرجف بين ضلوعنا : أشكالا و أنغاما و أداء و نقدا. إن جسد ثقافتنا العربية يتفسخ أمام ناظرينا، و لن يبرئه إلا "طبيب" التراث و "طب" العقول و "تطبيب" النفوس.

 

q      هل نحن قادرون على أن نرقى بخطابنا الثقافي من عموميات الإنشاء الأدبي إلى منهجيات البحث العلمي و الميداني المنضبط، ناظرين إلى الثقافة بوصفها علما و العلم بوصفه ثقافة؟.

§             صحيح من أن الثقافة العربية تشكو من ضمور شديد في لغة وصف الثقافة meta-language of culture ، سواء على مستوى المصطلح، أو المفاهيم الأساسية و لكن المحاولات مستمرة و إننا ندين إلى روادنا الثقافيين من أمثال عبد الرحمن بدوي و محمد عابد الجابري و برهان غليون و إدوارد سعيد و إيهاب حسن و محمد أركون : بإغناء ذخيرة مصطلحاتنا الثقافية. و قد أضاف سامي خشبة بمسرده المهم "مصطلحات فكرية" مرجعا أساسيا كانت المكتبة العربية في مسيس الحاجة إليه. و يلزم هنا أن نشير إلى أن المصطلح الثقافي بطبيعته يميل إلى التجريد، و إلى تناول مفاهيم تجمع بين الدقة و الشمولية في آن، وهو الأمر الذي يزيد من صعوبة صكه، خاصة بعد أن تعقدت المفاهيم الثقافية و تفرعت و تداخلت بفعل المتغير المعلوماتي. و قد استسهل الكثيرون في ترجمة المصطلحات الأجنبية الحديثة استخدام المصطلحات المركبة من أكثر من كلمة. و المصطلح المركب كما هو معروف يسد الطريق أمام الاشتقاق منه و تطويعه سياقيا. أما بالنسبة للغات الإبداع، فمازلنا بعيدين عن تناولها نظرا لتخلفنا في معظم مجالات الفنون علاوة على تبعيتها المعمارية و النقدية. و في وسط هذا الركام يبرز حسام الدين زكريا، مهندس البحرية المتقاعد، ليهدي إلى المكتبة العربية أول معجم شامل لمصطلحات الموسيقى العالمية و مفاهيمها و أعلامها، يجمع بين عباقرة الموسيقى العالميين و المحليين و يوثق مآثرها تراثنا الموسيقي، الذي كاد أن يندثر، إلى جانب التراث العالمي.

 

q      ما هي الملامح البارزة لصورة الثقافة العربية الراهنة على الإنترنت؟

§             بداية نقول إنه لا يمكن أن تكون صورة الثقافة العربية على الإنترنت إلا انعكاسا – أو نتاجا فرعيا – للمشهد الثقافي العام، و موقف التأزم الحضاري الذي يسود عالمنا العربي. و لا يمكن لحوارنا مع الآخرين عبر الإنترنت أن ينفصل عن أحوالنا الداخلية و أوضاعنا السياسية و الاقتصادية. فشبكة الإنترنت – بوضعها الحالي على الأقل – ما هي إلا أداة لطرح نتاج الفكر و أنشطة المؤسسات الثقافية و العلمية، و حصاد المؤتمرات و الندوات، و مناهج الدراسات و البحوث. وهي تعد بذلك مرآة كاشفة لمدى حيوية المجتمعات و همة أفرادها، و واقع ظروفها و نوعية الخطابات التي تتفاعل بداخلها. بقول آخر، لا يمكن أن تنشأ الرسالة الثقافية من فراغ، بل لا بد  من توافر البنى التحتية القادرة على إنتاجها و مداومة تحديثها، و رصد و تحليل ما يقوم به الآخر : المعادي و الموالي، المتقدم و النامي، العالمي و الإقليمي. و لا نقصد هنا أن خطتنا لتحسين صورة الثقافة العربية على الإنترنت يجب أن تنتظر حتى تتوافر البنى التحتية المساندة و الظروف الاجتماعية المواتية. فبجانب كونها عملية مستمرة دائمة و دائمة، فإن المتوافر حاليا في عالمنا العربي من البنى التحتية، و الموارد الثقافية البشرية و الفكرية و المادية، يكفي لتحسين هذه الصورة بشكل جذري.

و يمكن تلخيص الملامح البارزة لصورة الثقافة العربية و الحضارة الإسلامية على الإنترنت في النقاط الرئيسية التالية :

-        غياب عنصر التنسيق و المشاركة في الموارد

-        المشهد الحزين لثقافتنا العربية ناتج عن تقاعسنا و استرخائنا، أكثر من كونه نتاجا لما يقوم به الآخرون من تشويه و طمس.

-        تساهم في تشكيل صورة الثقافة العربية و الحضارة الإسلامية على الإنترنت فرق متنوعة، تختلف طبيعة رسالتها و أهدافها بصورة كبيرة.

-        من حيث مدى التغطية لعناصر منظومة الثقافة، تطغى الأمور المتعلقة بالعقيدة و نظام القيم (خاصة تلك المتعلقة بوضع المرأة في الإسلام) على كل النواحي الأخرى، و باستثناء فنون الزخرفة و العمارة، تظل غائبة، أو شبه غائبة، تلك النواحي المجهولة و المهملة من ثقافتنا و حضارتنا، كالموسيقى و الأدب و الشعر و السينما و المسرح و اللغة و التراث الشعبي و الحرف. و يتركز معظم الحديث في تناول إسهاماتنا الثقافية و الحضارية على الماضي، و إغفال شبه تام لحاضرنا الثقافي.

-        يعيب خطابنا الثقافي على الإنترنت انعزاليته المعرفية و التاريخية، فهو ينأى عن الدراسات التقابلية الجادة منطويا على ذاته لا يطرح قضاياه في سياقات ثقافية و حضارية و  إنسانية أوسع. هذا عن مضمونه بصفة عامة، أما عن أساليب عرضه فتتسم بالبدائية و عدم استغلال الإمكانات العديدة التي تتيحها ثقافة الإنترنت.

-        يسود نشاطنا الثقافي عبر الإنترنت طابع رد الفعل و الانفعالية، و تعوزه – بشكل واضح – مهارات الحوار، و مناورات التفاوض، و معظمه يتجاهل نوعية المتلقي المستهدف.

-        يمكن القول بصفة عامة إن خطابنا الثقافي، خاصة فيما يخص الجدل الديني، ذو طابع تصادمي، على العكس تماما من نظيره اليهودي.

-        كثيرا ما يتناقض خطابنا الثقافي مع نفسه،ليس فقط لغياب عنصر التنسيق، بل بسبب تبرع البعض منا في نقل خلافاتنا الداخلية حول كثير من القضايا – و ما يكمن وراءها من دوافع – إلى ساحة الجدل العالمي.

-        غالبية المعلومات المتداولة عبر الإنترنت باللغة الإنجليزية، عادة ما تعد أو تترجم مما لهم من فهم لا بأس به لعقلية المتلقي الغربي، يعوزهم – بلا شك – المحتوى العميق و النظرة الأكثر شمولا لتجديد الخطاب الثقافي العربي. و لسوء الحظ، فإن معظم المحاولات الجادة لتجديد وجه الثقافة العربية ما زالت حبيسة اللغة العربية لضعف الترجمة من العربية إلى الإنجليزية. و مما يزيد الموقف سوءا أن غالبية المفكرين و المبدعين العرب الجادين مازالت صلتهم بالإنترنت و وسائل الاتصال الحديثة شبه معدومة.

 

q      كيف ترون السبيل لتجديد العقل العربي ؟

§             تجاوز تجديد العقل العربي مرحلة كونه مطلبا ثقافيا، بعد أن أصبح مقوما تنمويا لتأهيل المجتمعات العربية لدخول عصر المعلومات. و لا مجال هنا للمجاملة، فمجمل العدة المعرفية لجمهرة العقول لدينا باتت دون الحد الأدنى اللازم لمجتمع المعرفة و التعلم و حوار الثقافات. و قد عفانا من الخوض في تشخيص العقل العربي، و توصيف وعكاته و عاهاته، عدد لا بأس به من البحوث الرائدة قامت بها باقة من خيرة مفكرينا من أمثال محمد عابد الجابري و محمد أركون و حسن حنفي و العفيف الأخضر و برهان غليون، و كم أتمنى أن تتفرع هذه البحوث، التي تناولت العقل العربي في إجماليته، إلى دراسات تفصيلية عن عقول الفئات الاجتماعية المختلفة : عقل المدني و البدوي و الفلاح و المهني و المدير و الموظف و المدرس و الطالب و هلم جرا. لقد أصبح ذلك مطلبا ملحا مع زيادة الاهتمام بالثقافات الشعبية عند تناول إشكاليات ثقافة المعلومات، و التوجه نحو عدم الفصل بين ثقافة النخبة و ثقافة العامة. إن تكنولوجيا المعلومات تتيح لنا وسائل عدة لرصد عقول تلك الفئات الاجتماعية، حتى لا تقتصر مهمتنا على العقل العربي العام المجرد أو المتصور SPECULATIVE . من جانب آخر، فنحن في حاجة، بجانب دراسة بيئة العقل العربي و تكوينه و مطالب تجديده، إلى تحليل نتائج هذا العقل – كما أوحى لنا عاطف أحمد – حتى تتضح لنا ملامح الخريطة المعرفية العربية. و مرة أخرى يمكن لتكنولوجيا المعلومات أن تساهم مساهمة فعالة في إجراء هذا المسح الثقافي الشامل.

    لقد قمت بتجميع أنماط فكر عصر المعلومات التي صادفتها على مدى دراستي الراهنة، و أوردها مقرونة بعينة من أنماط الفكر العربي السائدة، و قد استخلص معظمها من بحث للعفيف الأخضر عن عوائق الفكر العربي. و أترك لكم الحكم على ما يعانيه فكرنا من العثرات و العلل:  فكر ابتكاري/فكر تقليدي - فكر مفهومي/فكر سطحي - فكر خلافي/فكر دوجمائي - فكر تنفيدي/فكر استسلامي - فكر علمي/فكر لا علمي - فكر منظومي/فكر دمجي - فكر استشرافي/فكر رجعي - فكر حدسي/فكر قاطع - فكر مبادر/فكر سلبي - فكر محدد/فكر غير محدد - فكر متواز/فكر توفيقي - فكر جمعي/فكر فردي - فكر عولمي/فكر محلي - فكر بدائلي/فكر أحادي - فكر حوسبي/فكر سردي - فكر تواصلي/فكر انطوائي - فكر توليدي/فكر الأمثلة.

    و لا شك في أن مهمة تجديد العقل العربي مهمة شاقة للغاية، سواء على المستوى الأكاديمي أو التنويري أو الإعلامي. و إني أرى ضرورة استغلال تكنولوجيا المعلومات كأداة لتعميق الفكر الثقافي، و استغلال الفكر الثقافي كأداة لتوطين تكنولوجيا المعلومات في التربية العربية. و أقترح هنا مداخل أساسية عدة للاستراتيجيات السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الإعلامية و التربوية و المعلوماتية، على الوجه التالي :

الاستراتيجية السياسية : حرية الفكر

الاستراتيجية الاقتصادية : النظر إلى المعلومات و الثقافة كمورد اقتصادي، و تبني مبدأ المشاركة في الموارد.

الاستراتيجية الثقافية : اللغة العربية كركيزة أساسية

الاستراتيجية اللغوية : التركيز على شق المعنى و الاستخدام الفعلي للغة

الاستراتيجية الإعلامية : إعلام تنموي لا ترفيهي فقط

الاستراتيجية التربوية : التخلص من آفة التلقين السلبي

الاستراتيجية المعلوماتية : معالجة اللغة العربية آليا، كركيزة أساسية للتنمية المعلوماتية.

 

q      أين مكانة العرب في عصر الذكاء الاصطناعي ؟

§             في حوار العقل العربي أو صراعه مع غيره، لن يواجه عقلا آخر أعزل، بل سيواجه عقلا يؤازره ذكاء الآلات و انظم و الروبوتات المعرفية، بل ربما أيضا عقلا أدخلت عليه التحسينات و الإضافات باستخدام أساليب اليوجينيا (علم تحسين سلالة الإنسان) الإلكترونية. إن علينا أن نتدارك هذا الموقف من الآن، حتى لا نفاجأ بعد فوات الأوان بأننا قد أصبحنا لقمة سائغة لتعاضد الذكاء الحيوي – الآلي.

    يتطلب منا ذلك على سبيل المثال لا الحصر :

-        التوسع في تطبيق أساليب الذكاء الاصطناعي على معالجة اللغة العربية آليا.

-        دراسة أثر الروبوتات في فرص العمل المتاحة أمام أصحاب المهارات الدنيا (كعمالة البناء على سبيل المثال) و التي تمثل نسبة لا يستهان بها من العمالة العربية.

-        الاهتمام ببحوث تكنولوجيا المخ و الأعصاب.

-        إقامة الجسور العلمية و التكنولوجية بين المعلوماتية و الهندسة الوراثية.

 

q      هل يمكن أن تحددوا لنا الأزمات الفكرية التي يعاني منها الفكر الثقافي العربي؟

§             يعاني الفكر الثقافي العربي من أزمات طاحنة على جميع الجهات، أزمات في فكر اللغة، و فكر التربية، و فكر الإعلام، و فكر الإبداع، و الفكر الديني، فكر القيم، و فكر معالجة التراث. و الأدهى من ذلك هو ذلك الفقر الشديد الذي يعاني منه الفكر الفلسفي العربي، و التنظير الثقافي بالتالي. و في ظلمة الخواء ترتع خفافيش الانتهازية الفكرية، و يتحول أنصاف الفلاسفة و أنصاف العلماء إلى أشباه أنبياء، ذوي سلطة معرفية أقرب ما تكون إلى السلطة الغيبية.

    و قد استهلك المحللون في وصف راهن الفكر الثقافي العربي جميع مصطلحات التقاعس و السلبية، من تلقين و تبعية و ترديد وردة ثقافية، و عزلة معرفية و جمود فكري و انكماش حضاري، و غيبوبة أكاديمية، و غيبة الحوار و غربة الأصالة، و إجهاض الإبداع، و فوضى الساحة الثقافية. لقد تفاقم الوضع حتى بدا – في نظر البعض – و كأن الفكر العربي قد فقد الرغبة في إنتاج المعرفة، و كأنه بذلك يؤكد ما زعمه ماكس فيبر في تجنيه من أنه لن تقوم للحداثة الإسلامية قائمة نتيجة لما أسماه بالاستبداد الشرقي، ناهيك عما يشيع في خطاب الاستشراق من مزاعم باطلة عن عجز فكري متأصل في صب ثقافتنا، متهمين إياها بالسلبية و الآخروية و الانغلاق على الذات و رفض مبدأ الحوار، على عكس ثقافة الإغريق التي قامت على الحوار و المحاجاة و تبادل الآراء و الأفكار. فهل لنا بعد كل هذا أن نلحق بثورة تجديد الفكر الثقافي التي فجرها عصر المعلومات، و هل لدينا جرأة الإقدام على مراجعة شاملة لأصولنا الفكرية، و عدتنا المعرفية، و تنمية مبادراتنا التنظيرية. و إن لا، فهل هناك من بديل؟

 

القاهرة – فيفري2002    

 

Arabpsynet

Comunications   / حوارات /  Interviews

شبكة العلوم النفسية العربية

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, Arabpsynet. (All Rights Reserved)

 

تـقـيـيـمــك لهــذا الحــوار

****

  ***

**

*